الوحدة الوطنية بلغة رئيس محكمة

TT

سيبقى يوم السبت 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 يوما محفورة أحداثه في الذاكرة المصرية لسنين طويلة، كما سيأخذ مكانه كيوم استثنائي في «أجندة» الحكم والحكام في العالم العربي.

في هذا السبت النادر الحدوث في عالم السياسة العربية تم إسدال الستار على محاكمة غير مسبوقة لرئيس دولة وابنيه ومساعدين وشخصيات عامة محسوبة على نظامه. وهذا الرئيس هو محمد حسني مبارك الذي قضى حكم المحكمة بتبرئته وجميع المتهمين معه وأبرزهم الابنان علاء وجمال ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وستة من كبار مساعديه (هؤلاء جميعا في السجن) ورجل الأعمال (غائب خارج مصر) حسين سالم.

بقدر ما أن قرار التبرئة غير عادي، فإن حيثيات التوصل إليه غير عادية أيضا. وتبسيطا لهذا الذي حدث يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

- لو أن رئيس المحكمة المستشار محمود كامل الرشيدي والقضاة المحيطين بمنصته لم يأخذوا في الاعتبار أن الذي وراء القضبان هو ابن المؤسسة العسكرية، وأنه أحد رموز النصر الذي تحقق في حرب 1973، لربما كان سيصدر حكما آخر يقضي بموجبه من كان رئيسا على مدى ست وثلاثين سنة (1978-2012) بقية حياته سجينا.

- تدليلا على ما نقول نرى أن رئيس المحكمة اعتمد مبدأ يحتفظ بموجبه لضميره كرجل قانون يترأس محكمة بحق تسجيل موقف أو مشاعر، ويفصل التبرئة بالقتل عن الإدانة بالسلوك وممارسة مبارك الدور كرئيس للبلاد وما حفل به هذا الدور من أوزار، كما أنه في الوقت نفسه يطلب من رئيس البلاد عبد الفتاح السيسي تعظيم الدور الإيجابي للمجلس القومي لرعاية أسر «شهداء ثورة 25 يناير» وكان سقوطهم هو الذي أودى بالرئيس مبارك وبقية الذين برأتهم المحكمة يوم السبت إلى التنقل بين المستشفى والسجن.

- بالنسبة إلى تسجيل موقف يريح الضمير اشتكى رئيس المحكمة في نهاية تلاوة الأحكام من «غل يده» وطالب بتعديل القانون «حتى تبسط العدالة سلطانها على كل صور الرشى للموظف العام».... كما أنه وهو يبرئ مبارك انتقد سنوات حكمه بشدة وبتركيز على «ما اعترى النظام من وهن خلال سنواته الأخيرة»... مؤكدا أن ذلك حصل «عندما فسق فرع من النظام للاستحواذ على مقاليد الحكم، وقرب الأتباع، ونضب ضخ دماء جديدة على مقاعد صارت حكرا لقيادات تناست دوران عجلة قانون الحياة دوما للأمام، وتصرمت عزيمتهم للاستحداث، وغض الطرف عن الموروثات الشرطية، التي جفلت الفكر الأمني الخلاق، وتقاتل على ثروات مصر زمرة من المنتفعين وأصحاب المصالح والمتسلقين، مع تزييف الإرادة الشعبية، واندثار التعليم، وإهدار الصحة، وتجريف العقول المستشرقة للغد. ومهما كان الرأي أو الحكم عن فترة تولي مبارك المسؤولية التي قاربت على 36 عاما، ما بين نائب لرئيس، ثم رئيس للجمهورية، فأصاب وأخطأ، مثل أي حكم لبشر، فالحكم له أو عليه، بعد أن انسلخ منه العمر سيكون للتاريخ، وبالأحرى لقاضي القضاة، الحق العدل، الذي سيسأله كحاكم عن رعيته».

- استكمالا لموقف إراحة الضمير ينهي رئيس المحكمة القاضي محمود الرشيدي تلاوة الأحكام في ضوء ملف الحكم وحيثياته في 1430 صفحة مع فهرست لها يتضمن عدد القتلى والمصابين في 10 محافظات بمطلب من الرئيس السيسي مع رد على الأصوات المعترضة على تبرئة جميع المتهمين. أما المطلب فهو أن يستظل الرئيس السيسي برعايته كل من كان يعول من قدموا أرواحهم أو المصابين ولرد المظالم إلى أصحابها، على أن يشمل ذلك شتى مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية فتهدأ أحوال المصريين وتطيب النفوس بعد الرضا بما قدمه الرحمن. «والمحكمة تنوء بحمل ثقيل من الحزن على من قتل في الميادين العامة سواء من الثائرين أو من رجال الجيش والشرطة في المحافظات المختلفة دفاعا عن حقوق مشروعة للوطن».... وأما الرد على الأصوات المعترضة على تبرئة جميع المتهمين فجاء بلغة رئيس محكمة يرى أنه مثلما أن العدل أساس الحكم فإن الوحدة الوطنية أساس الاستقرار. وهذا واضح في قوله: «إن عمري تجاوز 63 سنة، وعلى مشارف القبر، وأرى لحظة حسابي.. حيث سيتم سؤالي عما صنعته في الدنيا بصفة عامة، وماذا قضيت في القضاء بصفة خاصة. رفعة بلادنا لن تكون إلا ببعث مكارم الأخلاق، والإتقان في العمل. إن كان ما أقول بالنقص، فنحن بشر، وإن كان فيه إجادة فمن رب البشر».

ما يجيز كاتب مثل حالي عايَش ميدانيا ثلاثة عهود مصرية لنفسه القول: لقد حفلت تلك العهود التي كانت تراعي في أحكامها النظام ولو على حساب كرامات أحيانا، ومن هنا بات التعبير الشائع «ياما في الدنيا مظاليم» جزءا من أدبيات المجتمع المصري. كما واكبت بالمتابعة والاطلاع محاكم عربية ثورية ليس في أي منها عدالة تأخذ في الاعتبار مسألة الوحدة الوطنية وإنما ثأر نظام استجد من نظام توارى بانقلاب، والظلم في أقصى وأقسى درجاته، فضلا عن محاكم دخلت في تاريخ المحاكم كرمز للمحكمة الذي لا يخشى رئيسها ما لاحظناه في خشية القاضي الرشيدي الذي قضت محكمته بتبرئة مدروسة للرئيس الأسبق حسني مبارك وأفراد من الحاشية، وتتسم مطالعاتها إلى ذلك بالشتيمة والسخرية والثأرية كحال محكمة المهداوي في زمن ثورة عبد الكريم قاسم، تليها المحكمة الأميركو- عراقية أو العراقو- أميركية التي أسست محاكمها لعداوات وقوانين ما زالت تشكل عائقا أمام الوحدة الوطنية في العراق رغم انصراف نوري المالكي. ونحن هنا نتحدث بصيغة على سبيل المثال لا الحصر، ففي سوريا وليبيا والسودان واليمن محاكم، المتهم فيها مدان حتى إذا ثبت العكس.

إلى ذلك، هنالك في ديار الأمة قضايا برسم المحاكمة يتمنى المرء، في حال كانت أحكام المحاكم من شأنها إلحاق قليل الأذى أو كثيره بالوحدة الوطنية، أن يأخذ القضاة بالمعادلة التي ارتأى رئيس المحكمة المستشار محمود كامل الرشيدي الأخذ بها، والذي عندما انتهى إلى صياغة الأحكام استحضر على ما يجوز الافتراض الصالح من مواقف الرئيس مبارك إلى جانب الطالح منها، ولعله استحضر لحظات كان فيها مبارك يقود في الجو يوم السادس من أكتوبر 1973 السرب الذي دشن الضربات الجوية للقوات الإسرائيلية على ضفاف قناة السويس وفي أعماق سيناء، التي حولها بعض الإسلامويين إلى ساحة عدوان على جيش المحروسة. كما لعله استحضر أن الرئيس مبارك حكم طويلا إلا أن الشعب الذي ارتضى طوال السنوات الست والثلاثين للرئيس هو الذي يتحمل المسؤولية. وبطبيعة الحال فإنه عندما يبقى الرئيس رئيسا طوال ثلاثة عقود أن يفكر من في بيته أو حوله بالتوريث على أساس أن الشعب يرتضي ذلك. كما لعل المستشار الرشيدي أخذ في الاعتبار أن وزر السلام مع إسرائيل ليس من صنع مبارك وإنما هو إرث مُبغَض يرتضيه الجميع، لكن يكفي مبارك أنه لم يزُر إسرائيل مفضلا أن يزار على أن يزور.

وعندما يستحضر رئيس المحكمة هذه المحطات، وغيرها كثير، وكيف أن الرئيس مبارك رفض مغادرة مصر كهروب غيره، ويضع الصالح في كفة ميزانه وفي الكفة الأخرى الطالح، يسأل ضميره إذا وجد تعادلا في الكفتين: أين مصلحة الوحدة الوطنية في الأمر؟ ثم يترك يمناه تضغط برفق نزولا بعض الشيء على كفة الطالح لكي تعلو كفة الصالح. وهذا لكي تحيا مصر.