يجمع الله الانسان في بطنه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث لمدة تسعة اشهر، واعتبر ابن خلدون ان عمر الدول هو ثلاثة أجيال، واذا كان دفن بني اسرئيل في التيه احتاج اربعين سنة فتكون 120 سنة هي عمر الدولة، اما توينبي فذهب لرؤية عمر الحضارة في آلاف السنين. ويعلم الاطباء ان هناك فترة حضانة بين دخول الفيروس جسم الانسان وانفجار اعراض المرض، ويعمل جسمنا فيزيولوجيا بخمسين دورة انقسام فيستهلك نفسه ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون؟ وعندما نزرع النبتة في الارض تتأخر حتى تورق اغصانها لأنها تكون مشغولة بتثبيت الجذور. سنة الله في خلقه. وتحت قانون الدورة هذه يندرج النبات والفيروس والجسم والمجتمع والحضارة. وبين دفن بذرة فكرة الوحدة الاوروبية وخروج ثمراتها من اكمامها مختلفا الوانها نصف قرن من الزمن، وهو عمل خارق، فنحن خلال هذه الفترة لم ننجب الا تفرقا وحروبا.
وعندما ذهب (شاخت) وزير الاقتصاد الالماني الى اندونيسيا التي تخرج ارضها ثلاثة مواسم سنوية ظن بنفسه انه سيحقق قفزة عملاقة في الاقتصاد كما حصل معه حينما دخل بألمانيا الى اقتصاد الحرب، وفاته ان عناصر الحضارة ثلاثة هي (الانسان والتراب والوقت) في حالة معادلة تفاعل. وان وجود الانسان وتوفر التربة والزمن لا يعني الحضارة ما لم يتدخل عنصر (كيفي) يقوم (بتوليفة) بين هذه العناصر، وهذا يعني ان بناء الانسان هو الشرط الاولي لدخول الحضارة. وبقدر نجاح (شاخت)، في المانيا بقدر فشله في اندونيسيا. واذا انطفأت حيوية الانسان نضب كل شيء، فلم يكن شيئا مذكورا. وقصة الاتحاد الاوروبي وولادة اليورو تخضع لهذه القاعدة الحيوية.
واذا اردنا مراقبة التطور في ولادة الاتحاد الاوروبي خلال ربع القرن الفائت لفت نظرنا ما يلي:
بين عامي 1973 ـ 1975 في مؤتمر (هلسنكي) تشكل مؤتمر (الأمن والعمل المشترك في اوروبا ـ Ksze) الذي انضم اليه شركاء ثلاثة هم الاتحاد السوفيتي وكندا وامريكا. وفي عام 1974، تم وضع دستور للمجلس الاوروبي الاعلى كهيئة عليا للسوق الاوربية ورؤساء الدول، على ان تكون الاجتماعات مرتين على الاقل في السنة، وفي عام 1975 وقعت اتفاقية (لومي ـ واحد). بين السوق الاوروبية المشتركة و 46 دولة افريقية ودول من جزر الكاريبي والاطلنطي لحقتها ثلاث اتفاقيات اخرى، كما تم تأسيس منظمة الفضاء الاوروبية في نفس العام (ايسا ESA). وفي عام 1979 تم وضع النظام النقدي الاوروبي حيز التنفيذ (EWS). وفي نفس العام بدأت الانتخابات المباشرة للبرلمان الاوروبي الذي يضم 626 عضوا ينتخبون لمدة خمس سنوات حسب التقسيمة السكانية، حيث تحتل المانيا السقف يمثلها 99 عضوا وكل من بريطانيا وايطاليا وفرنسا (87) تتلوها اسبانيا (46) عضوا، ثم كلا من اليونان وبلجيكا والبرتغال (25 عضوا) والسويد (22) واخيرا يمثل فنلندا والدنمارك 16 عضوا ولوكسمبورغ (6) وهكذا. وفي عام 1985 تم تأسيس وكالة تنسيق الابحاث الاوروبية للتكنولوجيا العالية (اوريكا ـ EURIKA). وفي عام 1986 تم الاتفاق على الملف الاوروبي الموحد لأول اصلاح شامل للنظام الاوروبي استهدف ثلاثة امور اساسية: تحقيق السوق الداخلية حتى نهاية عام 1992 وتوسيع صلاحيات السوق المشتركة. تحسين قدرة التعامل بتحسين آلية اتخاذ القرارات. والتطوير نحو الوحدة.
وفي عام 1992 تم التوقيع على اتفاقية (ماسترخت الاولى) وتأسيس الاتحاد الاوروبي بهدف المزيد من التكامل والاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وحرية الحركة لانتقال البضائع والاشخاص والخدمات ورأس المال، وهكذا بدأ يشرق يوم جديد على اوروبا المقسمة بحرية الحركة بين 15 دولة تضم 370 مليون نسمة. وفي عام 1995 وحسب اتفاقية (شينجنر Shengener) تم ازالة المراقبة في الحدود الداخلية، هذه المرة زالت الحواجز بدون هجوم عليها كما حدث عام 1950، ولكنها تمت بعد استفراغ الجهد لمدة خمسة واربعين عاما، وهي في عمر الزمن ومضة وفي عمر الشعوب ساعة من نهار. وفي عام 1997 مع اتفاقية ماسترخت الثانية جاء المزيد من الاصلاحات وتم الاتفاق على مد العضوية الى دول شرق اوروبا، وفي عام 1999 دخلت المرحلة الثالثة للاتحاد النقدي حيز التنفيذ وولد اليورو بدون ورق وقطع نقدية وتم التعامل معه قانونيا في البنوك. وفي اليوم الاول من عام 2002 بعد منتصف الليل بدقيقة واحدة كان في مقدور الناس التمتع بالامساك ورؤية قطعة اليورو النقدية تسحب من الصراف الآلي.
وهكذا حصل ما قاله (كاليرجي) منذ عام 1922 والذي كتب بعنوان اوروبا واحدة Paneuropa ويستطيع المرء التنقل عبر القارة الاوروبية بعملة واحدة في اليد بدون مشاكل التبديل ورسوم التحويل مع كل سفرة في القارة. واليوم وبعد ولادة اليورو، ينظر المرء وهو يتأمل هذه المعجزة الاقتصادية التي ولدت بمساحة 3.19 مليون كيلومتر مربع مقابل امريكا 9.36 واليابان 0.38. تضم عددا من السكان يصل الى 372.6 مليون نسمة مقابل امريكا 265.6، اليابان 125.9، ويصل دخل الفرد فيها الى 37681 ماركا مقابل امريكا 51103 واليابان 57814. ومع عام 2000 كان ناتج الدخل القومي في دول الاتحاد 6394 مليار يورو، مقابل امريكا 10510 وتصل ثروة المانيا في هذا الاتحاد الى 2023 مليار يورو، اي ما يعادل ثلث كل ثروة اوروبا. تليها فرنسا 1391 وايطاليا 1122، ثم اسبانيا 572 واقلها لوكسمبورغ 19 مليارا.
ومن خلال استعراض تاريخي لعلاقة المارك الالماني مقابل الدولار نرى تطورا عجيبا في نهوض الامم عبر عملتها المحلية، فقد كان معدل صرف الدولار عام 1955 مقابل المارك الالماني هو 4.21 مارك، ليهبط على نحو تدريجي بعد عشرة اعوام الى 3.99، ثم بعد عشرين سنة الى 2.94، ليصل الى الحضيض عام 1995 فيعادل كل دولار 1.43 مارك. بمعنى ان الدولار خسر %70 من قيمته امام المارك، واتذكر رسما كاريكاتوريا يعرض اليابان والمانيا وهما رافعتا اليدين مستسلمتين امام فوهات مسدسات امريكية عام 1945، وبعد خمسين سنة وقد رفعت امريكا اليدين مستسلمة بورقة نقدية من ين ومارك. وهكذا فمقياس الصعود والهبوط ليس بالمسدسات والعضلات بل بالعقل والاقتصاد والتدبير.
وكانت التوقعات ان ينبطح الدولار حتى مستوى 1.2 مارك، كما انه انكمش الى حوالي 85 ينا بعد ان كان قبل سنوات 150 ينا في شاهد على نهوض العملاقين الاقتصاديين الالماني والياباني.
وتلك الايام نداولها بين الناس. في الوقت الذي كانت فيه عملات الدول العربية تتآكل وتخسف بها الارض يوميا بسبب سيطرة الفساد وغياب التخطيط واختفاء الاستقرار السياسي. بما كسبت ايديهم ويعفو عن كثير. ان هناك نقادا كثيرين للوحدة الاوروبية وليس هناك من كائن كامل، ويعتبر السياسي البريطاني (جون ريد وود) الذي كان في حكومة (ميجر) عام 1995، من اشد نقاد الوحدة الاوروبية ويعتبر ان الاتحاد الاوروبي يقوم بتصنيع (آلة البطالة) في اوروبا بالتخلي عن السوق الحرة الى تخطيط السوق. ويتوقع لها الانهيار كما حصل مع الامبراطوريات في التاريخ التي انهارت كما حصل للامبراطورية الرومانية، ويقارن بينها وبين سيطرة الكثلكة التي قادت الى سلسلة انتفاضات بروتستانتية، لينتهي الى فشلها كما فشلت خطط نابليون وانهيار امبراطورية آل هابسبورغ. يقول ريد وود: انها وحدة تسحب القوة من الدول والشعوب. وانهم يريدون حماية منازلهم من الريح الامريكية بمزيد من المطالب ورفع الضرائب ولكن هل يفلحون في الخلاص من ريح الميكرو شيبس والتكنولوجيا الامريكية المتقدمة؟ ان المسنين البيروقراطيين في بروكسل يريدون استبدال الديمقراطية ببيروقراطية واهنة. هكذا يقول. ان العبرة ليست في قيام عملة موحدة، او علم واحد بصليب احمر فوق شمس ذهبية كما تخيل ذلك (كاليرجي) في مشروعاته الطموحة عام 1922.
ولكن ما فات (جون ريد وود) ان ولادة كل عملة جديدة في العالم كانت بالقوة وتحت سيف الدولة وهي الآن تقوم بالعدل والسواء والتفاهم. والذي سيحكم على اي تطور في التاريخ هو نتائج العمل كما علمنا القرآن «قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من اصحاب الصراط السوي ومن اهتدى». ويعلق المستشار الالماني القديم (هلموت شميدت): انها مسألة وقت لا اكثر حتى يعتاد الناس على اليورو فحالما اشتروا متاعهم وطعامهم بهذه العملة تعلقوا بها. اما (هيلموت كول) المستشار الالماني السابق فيقول: «ان نزول اليورو الى السوق يعني ان الوحدة الاوروبية ماضية في طريقها بغير رجعة». وفي نهاية عام 2001 تم الاحتفال بالمولود الجديد فخرجت نساء سرابيلهن من القطع النقدية الثمينة، وكانت عشرة آلاف عربة قطار تحمل 52 مليار قطعة معدنية في صرر المال الجديد توزعها على البنوك المحلية، بما لم يحلم به قارون في اشد احلامه الوردية، اما القطع النقدية الورقية فبلغت 15 مليار قطعة تصل اذا صفت بجنب بعضها البعض الى سطح القمر خمس مرات. اكثر مما جمعه الاسكندر الكبير من خزانة الفرس وخوفو في هرمه الاعظم وان مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة من الرجال.
واما المارك الالماني والفرنك الفرنسي والكرون السويدي والجولدن الهولندي والبيزيت الاسباني والليرة الايطالية والدراخما اليونانية اصبحت جميعا في ذمة التاريخ، ويقطعها الاطفال اليوم الى نثارات يلعبون بها. ويجب ان ننبه ان من كان في جيبه شيء من هذه العملات الاوروبية القديمة فيجب ان يبدلها قبل 28 فبراير 2002 لأنها ستأخذ بعد ذلك قيمة تاريخية وسوف تنسخ من الواقع وتصبح قيمتها مثل الطوابع التاريخية، وانتبهت مافيات التزوير الى هذا اليوم الحاسم، حيث يختلط الحابل بالنابل، ولا يعرف الناس الورقة الجديدة تماما، فضبطت الشرطة مصنعا كبيرا لتزوير اليورو في ايطاليا قبل ان يرى اليورو النور.
والدرس الكبير من الوحدة الاوروبية وولادة اليورو وزعماء العالم العربي في طريقهم للاجتماع في لبنان في مطلع عام 2002 الانتباه الى الخروج بنوع من القاسم المشترك الادنى ليس ببيانات وتصريحات ملت منها الشعوب، ولكن بخطوات عملية تأسيسية بسيطة قابلة للتنفيذ، كما كان مع بداية الوحدة الاوروبية عندما بدأها جان مونييه الفرنسي وروبرت شومان باتفاقية وحدة المونتان للحديد والصلب بين ست دول اوروبية. ويستطيع العرب ان يحققوا هذا الشيء بعيدا عن روح التآمر والغدر وعدم الثقة والشعارات الآيديولوجية والمزايدة على بعض او تقبيل الشوارب لحل مشاكل سياسية يومية. فيربح الجميع ولا يخسر احد وطنا او عرشا او مالا. اننا لا نحتاج لكلمات كبيرة ومشاريع كالجبال، بل الاتفاق على انجاز ولو كان. ولكن يبدو اننا نركب القطار بالاتجاه المعاكس.
تحكي الرواية ان القطار جمع رجلين فلما وصل الى المحطة الاولى تنهد الاول بانزعاج، فلما وصل القطار الى المحطة الثانية ازداد تنهد الاول وارتسم القلق على محياه. فلما وصلا الى المحطة الثالثة تملكه الرعب. قال له صاحبه وهو يحاوره: اراك تزداد قلقا وارتباكا مع كل محطة نعبرها فما خبرك؟ قال الاول ولماذا لا أتأوه وارتعب وانا اكتشفت انني اركب القطار في الاتجاه الخطأ ومع كل محطة ازداد بعدا. قال له صاحبه: ويلك ان امرك عجيب ولماذا لم تنزل في المحطة الاولى وتستقل قطارا آخر بالاتجاه الصحيح؟ قال هو يزداد تمسكا بمقعده ولكنني اشتريت التذكرة والكرسي لذيذ والمكان دافئ، وما يدريك متى يمكن ان اعثر على قطار في الاتجاه السليم، هذا إن عثرت على قطار اصلا، ولهذا فأنا اتابع رحلتي بالاتجاه المعاكس.
Kjalabi@ Hotmail. Com