ألغاز أمينة المفتي

TT

في قصة الجاسوسة الأردنية أمينة المفتي لغز ضائع لم يحله الكتاب الجديد الصادر حديثاً عنها، فهل الطيار اليهودي الذي أحبته أسقطه السوريون فعلاً على جبهة الجولان؟ أم انه جندها للموساد في فيينا واختفى من خلال هذه الحكاية الوهمية، وما أكثر حكايات الوهم في العمل الاستخباري والتجسسي الذي تختلط فيه الوقائع بالفانتازيا.

والكتاب الجديد من تأليف فريد الفالوجي، وهو من اختصاصيي الكتابات الجاسوسية والمخابراتية، واعتمد في كتابه نظراً لضياع الملفات الفلسطينية بعد الرحيل عن بيروت على مذكرات الجاسوسة الوقحة التي تمت مبادلتها بفدائيين فلسطينيين عام 1980 وحينها اُنتقدت القيادة الفلسطينية للافراج عن تلك الجاسوسة الخطرة التي أوقعت الكثير من الاصابات بالفلسطينيين، فقيل في معرض تبرير ذلك انهم يبادلون مقاتلين بامرأة خائنة محترقة انتهى دورها، لكن هل فعلاً انتهى دورها خصوصاً بعد ان اختفت آثارها نهائياً بعد المبادلة في قبرص؟

وكان الذين يدافعون عن ضرورة اعدامها يرون ان تعليقها كما حصل مع كوهين في دمشق رسالة مرعبة وضرورية لكل عملاء الموساد في العالم العربي، فنصف الذين يتعاملون مع العدو أو ثلاثة أرباعهم يعتمدون على وعد بتخليصهم او ادراجهم ضمن صفقات المبادلات إن تم اكتشافهم.

والكتاب بعنوان «امينة المفتي أشهر جاسوسة عربية للموساد» وهي صفة لا تستحقها لأن الأشهر منها على هذا الصعيد هبة عبد الرحمن عامر الجاسوسة المصرية التي خرج سلاح الطيران الاسرائيلي لاستقبالها بعد مبادلتها، وجمعت لها جولدا مائير عشرين جنرالاً لتحيتها بالتحية العسكرية فور وصولها الى الكيان الصهيوني.

ومن خلال تحريات الفالوجي نصل الى الاعتقاد ان الموساد أراد انهاء خدمات الجاسوسة الأردنية امينة المفتي في وقت مبكر بعد ان أخذ ما يريده منها، لكنها أصرت على العودة الى بيروت لتعمل مجاناً لدواع انتقامية، وكانت لها مبرراتها الشخصية بعد ان التقطت رأس الخيط، وصادقت أبو علي حسن سلامة، وصارت تدخل الى مكتب عرفات بوصفها طبيبة عربية متطوعة مع المقاومة، وآه يا تطوع كم اختراقات تمت باسمك وما تزال غير مكشوفة.

ولم تكن أمينة المفتي، وهي من أصول شركسية طبيبة، ولا من يحزنون، فنصف أحقادها على العرب تنامت لأنهم في عمان اكتشفوا شهادة الدكتوراه المزورة التي رتبها لها عشيقها ثم زوجها اليهودي موشيه بيراد وأخته سارة التي صادقتها وساحقتها قبل ان تسلمها لأخيها ومنه للموساد مع التحية.

ولولا ان المؤلف يصر على ان الخيانة بالدم، ويقدم عدة أقوال لكاتب أقل منه أهمية ليثبتها لنظر القارئ الجاد الى تحليلاته باحترام اكبر، وهذا النوع من القراء لا يريد ان يسبق ابحاث العلوم الجينية ليقر مع فريد الفالوجي وحسن الألفي ان الناس يولدون والخيانة بدمهم. فقد ولدت امينة المفتي وفي دمها نهر من الشبق، وفي حياتها الكثير من الكبت، وهذا ما سهل الايقاع بها وتجنيدها بمجرد وصولها الى النمسا.

ومن خلال التحقيقات التي أشرف عليها ابو داوود ثم أبو الهول في كهف السعرانة بين صور وصيدا نكتشف ان لبنان كان مرتعاً للجواسيس، فأمينة وحدها جندت خمسة واستقبلت في سريرها البيروتي تسعة عملاء زائرين لدواعي الترفيه عنهم، ونأمل ألا يعود ذلك الداء للبنان، فتحقيقات هذه الأيام مع متهمين بالتجسس توحي ان ريمة قد تعود لعادتها القديمة اذا سكت القانون عنها.

وحسب الكتاب، فالاختراقات الأمنية وكثافتها وصلت لدمشق لأنه طُلب من أمينة المفتي قبل ان تهرب من بيروت وحين تم كشفها ان تذهب الى العاصمة السورية وتنتظر في مقهى الشام لتصلها الأوامر الموسادية الى مقهى بريء قامت سمعته الثقافية على اكتاف الشاعر محمد الماغوط الذي كان يجلس أيامها هناك محدقاً بالفراغ دون ان يدري بنوايا من يحيطون به في ذلك المقهى الدمشقي.

وان كانت قصة امينة المفتي بهذه الإثارة والأهمية، فلماذا لم يحولها الكيان الصهيوني واستخباراته الى فيلم او مسلسل يرد به على رأفت الهجان. ولعله لم يفعل ذلك لأنه ليس في الجاسوسية رواية نهائية، فالعميل الذي تظنه معك قد تكتشف لاحقاً انه كان عينا عليك والهجان نفسه كان عميلاً مزدوجاً حين بدأت اسطورته، لكن هل كان امينة داوود المفتي كذلك...؟

كتاب الفالوجي لا يجيب عن هذا السؤال، ويترك كذلك لغز الطيار موشيه بيراد مفتوحاً، ومعه عدة الغاز أخرى قد لا تجد حلها قبل دهر طويل، فلعبة الاستخبارات معقدة ومغرقة في سريتها، وكل طرف لا يكشف إلا الأوراق التي تدل على نجاحه وذكائه أما الفشل والخيبة فيخفيهما الجميع في أعمق الخزائن وفي أبعد نقطة عن الأنظار والتحليلات والأقلام الفضولية.