الإشكالية القانونية لحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الدول في الحفاظ على وحدة ترابها

TT

نصّت مواثيق الأمم المتحدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن ما جاءت به من حقوق ضمنتها للإنسان، لكن هذا الحق جاء في سياق عمل الأمم المتحدة لتحرير الشعوب من الاستعمار، وليس لتفتيت وحدة الشعوب مواطنةً وسيادةً وتراباً وطنياً.

يؤكد هذا إقرار الأمم المتحدة لحق قانوني آخر هو حق الدول في الحفاظ على وحدة ترابها الوطني، وسيادتها الواحدة، وحدودها التاريخية. وهو ما يعني أن حق تقرير المصير لا يدخل فيه الانفصال والتمرد على سلطة الوطن الواحد، خاصة إذا كانت حركة الانفصال مدعومة من سند خارجي ينطلق في دعمه لعملائه المتمردين على وطنهم من منطق توازن القوى، بإضعاف الجار وشل حركة تنميته، والنيل من قدراته ليبقى وحده هو الأقوى.

يُعَدُّ حق الشعوب في تقرير مصيرها من أقدم الحقوق الإنسانية، لكنه فرض نفسه بالأخص على المستعمرين القدامى عندما زلزلت حركات التحرير الوطنية عبر العالم أقدامهم على الأرض. وعندما انتزعت المستعمرات استقلالها وأصبحت بعض دولها تجلس بجانب القوى الاستعمارية أعضاء متساوية في الأمم المتحدة هبّ الضمير العالمي يصرخ بمشروعية حق الشعوب التي لم تحرّر آنذاك في تقرير مصيرها. وتوفرت لمشروعية هذا المبدأ مواد قانونية أضيفت إلى رصيد الحقوق التي ضمنها القانون الدولي للإنسان أفراداً وجماعات وشعوباً.

هكذا جاء القرار الأممي 1514 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 14 دجنبر (كانون الأول) سنة 1960 يحمل هذا العنوان الذي يحدد سياق ورود هذا الحق: «تصريح حول منح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرَة». ونص في ديباجته على اهتمام المنظمة الأممية بقضية تحرير الشعوب من الاستعمار، وحقها في إقامة كيانات وطنية مستقلة، وعلى أنها تُسنِد حركات التحرير في الأراضي الخاضعة للاحتلال الأجنبي، وأنها مصممة على إنهاء الاستعمار بجميع مظاهره وأشكاله. ثم رتبت على هذه المقدمة بنود تصريحها الذي نص في مادته الأولى على:

(1) أن اخضاع الشعوب للهيمنة الخارجية والاستغلال الأجنبي يشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية. (2) أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بكل حرية لإقامة نظامها السياسي الذي ترتضيه لنفسها. أما المادة الرابعة فقد جاء فيها: (4) أن لكل شعب الحق في ممارسة جميع حقوقه في الاستقلال الوطني الشامل، وبسط حكمه على كامل ترابه الذي لا يجوز المسّ به أو تجزئته.

وهو ما يرفع كل التباس ويبدّد كل خلط بين حق الشعوب في التحرر من الاستعمار، وبين استعمال حق تقرير مصير الشعوب في شل وحدتها وتقسيمها إلى كيانات متفرقة.

وختم التصريح الأممي العالمي بدعوة الدول الأعضاء في هيأة الأمم المتحدة إلى التقيد بأخلاقيات هذا التصريح، إذ نصت المادة السابعة والأخيرة على: (7) وجوب التزام الدول بما جاء في التصريح من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ووجوب احترامها المطلق لحقوق سيادة الغير، ووحدة التراب الوطني لجميع الشعوب.

أما الشق الثاني من الإشكالية، أي حق الدول في الحفاظ على وحدة سيادتها ووحدة ترابها الوطني فقد ضمنته نصوص وإعلانات ومواثيق الأمم المتحدة بما يضع حداً لكل لبس.

لقد تساءل الفكر القانوني الدولي عمّا إذا كانت إشكالية ثنائية حق الشعوب في تقرير مصيرها من جهة، وحق الدول في الحفاظ على وحدة ترابها وسيادتها تحتضن تناقضاً بين الشقين، وانتهى إلى أن حق الشعوب في تقرير مصيرها قد انتهى العمل به لأنه كان يعني رفع الاستعمار عن المستعمرات وتحرير الشعوب بناء على حقها في تقرير مصيرها. ولأن هذا الاستعمار قد انتهى، فإن الحق الناتج عنه قد انتهى أيضاً، لأن فقد السبب يقتضي انتهاء المسبّب.

وعلى العكس لا يمكن انتهاء حق الدول في الحفاظ على وحدتها وبسط سيادتها على كامل ترابها لأنه حق ثابت لا يزول إلا بزوال الدولة المعنية به أو انقراض مفهوم الدولة.

وقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء أخيراً في كندا قراراً بمنع الحكومة الكندية المركزية من التخلي عن «كيبيك» وعدم السماح لها بالاستقلال، لأن الحكومة لا تملك هذا الحق. وهي ملزمة بالتقيد بمبدأ واجب الحفاظ على وحدة كندا الترابية وعلى وحدة سيادة الوطن الكندي. واضاف القرار أنه لا يجوز أن يُطبّق على حالة «كيبيك» (التي توجد فيها حركة انفصالية تريد أن تطبق الفرنكفونية) مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقالت المحكمة العليا الكندية إنه لا يوجد في القانون الدولي ما يسمى حق فصيلة من الشعب في الانفصال عن وطنها بإرادتها الانفرادية.

وأثار قرار المحكمة إشكالية تعريف «الشعب» الذي لم ينته القانون الدولي إلى تعريف المراد منه. وقال إنه لا يمكن أن يعتبر شعباً فصيلة منه تعمل بإرادتها المنفردة للانفصال عن شعبها الكبير الذي تُؤطّره دولة ذات سيادة وينتشر على تراب وطني واسع. لذلك كله حظرت المحكمة الكندية العليا على الحكومة الكندية المركزية أن تقبل هذا الانفصال أو تسلم به أو تساعد عليه. وجاء في ختام قرار المحكمة الكندية ما يلي:

«ان أية دولة تدير شؤونها حكومة لا تفرق بين فصائل شعبها المنتشرة على ترابها الوطني الواحد، ولا تقيم بينها تمييزاً عنصرياً، وتعامل شعبها بمبادئ المساواة، لا يجوز لها بمقتضى القانون الدولي أن تقبل الانفصال أو تساعد عليه، وإنما يكون واجبها الأوحد هو المحافظة على ترابها وسيادتها الوطنية على هذا التراب».

وكانت ألمانيا الفيدرالية رفضت تطبيق مبدأ حق تقرير المصير لألمانيا الشرقية بحجة أن هذا الحق لا يعطى لجزء من الشعب بقصد الانفصال عن الوطن الواحد.

ان القانون الدولي وضع حداً للالتباس الذي يكتنف الإشكالية بما يمكن تلخيصه في أن حق الشعوب في تقرير مصيرها بالانفصال عن الاستعمار ذو مجال خارجي. أما حق الدول في المحافظة على وحدة التراب والسيادة فهو ذو مجال داخلي، وكل منهما بالتالي ينطبق على حالة مغايرة للأخرى.

ويزداد هذا التغاير وضوحاً عندما تلقي بعض الدساتير العصرية على رؤساء الدول (رموز السيادة) واجب المحافظة على وحدة التراب الوطني ووحدة السيادة الوطنية كما هو الشأن في الدستور المغربي. وهو ما يفرض على ملك البلاد واجب رفض تقسيم الوطن وتجزئته الى كيانات أو التخلي عن جزء من التراب الوطني.

والملاحظ أن الحل الذي جنحت إليه الأمم المتحدة في حل مشكل الصحراء المفتعَل هو الحفاظ على وحدة التراب الوطني المغربي وبقاء الصحراء المغربية تحت السيادة الوطنية. وهو الحل الذي ينسجم مع القانون الدولي الذي يستبعد تطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها على ظاهرة نزعة الانفصال.

وقد يقال إن اقتراحات «جيمس بيكر» لحل مشكل الصحراء تضمنت بين خياراتها الأربعة خيار التقسيم، لكن في الواقع إنما طُرح هذا الخيار لاستبعاده مثلما يطرح الخيار المستحيل لاستبعاده لا للعمل به. وما كان لهذا الخيار أن يُطرح والقانون الدولي يرفضه.

وقد يقال إن المغرب قد قبل في فترة سابقة خيار الاستفتاء وهو قد يعني تطبيق حق تقرير المصير على نازلة الصحراء. إلا أن المغرب ـ كما هو معلوم ـ ردّد دائماً على مسمع العالم وبصره أنه لا يقبل الاستفتاء إلا إذا كان تأكيدياً لوحدة التراب وبسط السيادة الواحدة على المغرب بما في ذلك أقاليمه الصحراوية التي لا تقبل مغربيتُها الجدل.

أما أن تظل الجزائر تؤيد الانفصال وتطمع في أخذ حصتها في كعكة تقسيم الصحراء معلّلة عملها بأنها إنما تدعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، فهذا ما يرفضه القانون الدولي الذي لا تجهله الجزائر ولا يخفى على أحد.