القمم العربية: من أين وإلى أين؟

TT

تنعقد في العاصمة الجزائرية خلال يومي 22 و 23 من شهر مارس (آذار) الجاري قمة عربية جديدة هي القمة التاسعة والعشرون في تاريخ القمم العربية. أما الاسم الرسمي المعتمد لهذه القمة فهو: «الدورة العادية السابعة عشرة لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة». وهذه التسمية تنطوي في حد ذاتها على معنى يفيد بأن القمم العربية الإثنى عشر الأخرى لم تكن «دورات عادية لمجلس جامعة الدول العربية»، ولكنها كانت اجتماعات «استثنائية» أو «طارئة» لقادة الدول العربية.

والى ذلك فقد أملت ظاهرة القمم العربية ، في البداية ، أحداث وظروف طارئة، وسلكت مسارات ودروبا طويلة ومتعرجة قبل أن تتمكن من التحول، في النهاية، إلى إحدى المؤسسات الرسمية لجامعة الدول العربية. فقد عقدت 24 قمة فقط خلال الفترة الممتدة منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 وحتى نهاية عام 2000 اعتبر نصفها قمما «استثنائية» أو «طارئة»، بينما اعتبر نصفها الآخر، مجازا في حقيقة الأمر، «دورات عادية لمجلس الجامعة العربية على مستوى القمة». ولتيسير فهم واستيعاب هذا التاريخ على القارئ غير المتخصص نقترح التمييز بين مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: ويمكن أن نطلق عليها مرحلة اللامبالاة أو عدم الاكتراث، وفيها بدت دورية انعقاد القمم العربية أمرا خارج نطاق التفكير الرسمي العربي وغير واقعي، ومن ثم غير وارد ولا يستحق المحاولة أصلا. وتمتد هذه المرحلة منذ بداية نشأة الجامعة العربية عام 1945 وحتى انعقاد قمة عام 1964. فخلال هذه الفترة الطويلة، والتي تمتد نحو عشرين عاما، لم تنعقد مؤتمرات عربية على مستوى القمة إلا مرتين فقط ، أي بواقع مرة كل عشر سنوات في المتوسط. الأولى: في أنشاص عام 1946، لبحث تطورات الوضع في فلسطين عقب الإعلان عن عزم بريطانيا إحالة القضية الفلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والثانية: في بيروت عام 1956، بمناسة العدوان الثلاثي على مصر. وخلال هذه المرحلة اعتبر انعقاد القمة العربية بمثابة عمل استثنائي لا تبرره إلا ظروف طارئة ولا تربطه بالجامعة العربية صلة مؤسسية بالضرورة. فلم تكن الجامعة العربية هي الجهة الداعية رسميا للقمة في الحالتين. ومع ذلك يلاحظ أن عبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة العربية، كان في الواقع هو الرأس المدبر خلف الكواليس والدينامو الحقيقي المحرك لمؤتمر القمة الأول في أنشاص.

المرحلة الثانية: ويمكن أن نطلق عليها مرحلة الدورية المتعثرة، وفيها بذلت محاولات جادة لتحويل القمة العربية إلى إحدى مؤسسات الجامعة العربية والتي تنعقد بصورة دورية ومنتظمة ، ولكن دون الإصرار على أن تقترن بالضرورة بعملية قانونية لتعديل الميثاق أو لإضافة ملحق جديد له. وتمتد هذه المرحلة من عام 1964، الذي شهد انعقاد قمة القاهرة بمبادرة من الرئيس عبد الناصر لبحث الرد العربي على المشروعات الإسرائيلية لتحويل مياه نهر الأردن، وحتى عام 2000 ، الذي شهد انعقاد قمة القاهرة أيضا، ولكن بدعوة من الرئيس مبارك هذه المرة ، لبحث الانهيار الذي أصاب عملية السلام بعد فشل قمة كامب ديفيد الثانية واندلاع انتفاضة الأقصى. وشهدت هذه المرحلة انعقاد 22 مؤتمر للقمة ، أي بواقع مؤتمر كل عام ونصف في المتوسط. غير أن فكرة الدورية والانتظام لم تتحقق بالكامل طوال هذه المرحلة، رغم الإلحاح الشديد عليها واتخاذ عشرات القرارات بشأنها من جانب العديد من مؤتمرات القمة ذاتها. وبينما شهدت بعض الأعوام انعقاد مؤتمرين للقمة في عام واحد (عامي 1964 و 1990)، فإن فترات ما بين الانعقاد طالت لأكثر من سنتين في مرات كثيرة، ووصلت إلى أكثر من ثلاث سنوات في بعض الأحيان (ما بين مؤتمر فاس الثاني عام 82 ومؤتمر الرباط في أغسطس(آب) عام 1985، وما بين مؤتمري القاهرة في يونيو(حزيران) 1996 وأكتوبر 2000) بل إنها وصلت في إحدى المرات إلى اكثر من ست سنوات. (ما بين مؤتمري القاهرة في 1990 و1996). وتعتبر حقبة التسعينات هي اسوأ فترات العمل العربي المشترك خلال هذه المرحلة ، حيث لم تنعقد القمة العربية خلالها إلا مرة واحدة عام 1996 .

المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الحالية والتي بدأت عقب مؤتمر القاهرة لعام 2000 ، والمشار إليه سابقا، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة الدورية المؤسسية ، وفيها تم تقنين دورية انعقاد القمم العربية. وقد شهدت هذه المرحلة ، ولأول مرة في تاريخ الجامعة العربية ، انتظام اجتماعات القمة العربية وتحولها بالفعل إلى اجتماعات دورية عادية لمجلس الجامعة على مستوى القمة تعقد مرة واحدة كل عام خلال شهر مارس. صحيح أن قرار الرئيس التونسي المنفرد بتأجيل قمة 2004 كاد يعيد العجلة إلى الوراء، غير أن الحكمة تغلبت في النهاية وعقدت قمة تونس في نفس العام المحدد لها ، ولكن متأخرة شهرين عن موعدها المعتاد (مارس من كل عام). وتعتبر قمة الجزائر هي القمة الخامسة منذ بداية العمل بهذه الآلية. وكانت القمة الأولى قد عقدت في عمان (الأردن) عام 2001 والثانية في بيروت عام 2002 والثالثة في شرم الشيخ عام 2003 والرابعة في تونس عام 2204 .

وتقودنا أي قراءة موضوعية متأنية لتاريخ القمم العربية إلى استخلاص ثلاث سمات رئيسية: أولها: سيطرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي على أعمال القمم العربية. فمن الواضح أن الأغلبية الساحقة لهذه القمم ، وعبر كافة المراحل كرست معظم جهدها لمعالجة أمور تتصل على نحو مباشر أو غير مباشر بالصراع العربي ـ الإسرائلي. وثانيها: أن هذه القمم جاءت في معظمها، وربما دائما، كردود أفعال لمبادرات أو لأزمات أثارها آخرون وليس تحسبا أو تحرزا أو استعدادا لهذا النوع من المبادرات أو الأزمات. وثالثها: أن القرارات الناجمة عنها لم تكن تستهدف معالجة الأزمات التي دعت إلى عقدها بقدر ما كانت تستهدف تخفيف حدة الضغوط التي تثيرها هذه الأزمات في مواجهة الأنظمة العربية.

وفي سياق كهذا كان من الصعب تحول القمم العربية إلى وسيلة لمواجهة ومعالجة مظاهر الخلل في بنية النظام العربي نفسه ، أو القيام باتخاذ إجراءات وقائية للحيلولة دون اندلاع أزمات حادة تضر بالعمل العربي المشترك في المستقبل، أو إعداد الخطط والبرامج الكفيلة بمواجهة وحل مثل هذه الأزمات في حال تفاقمها. فضلا عن صعوبة إيجاد آليات فعالة لمتابعة تنفيذ القرارات الصادرة عن هذه القمم. إذ سرعان ما كانت الأحداث الإقليمية والدولية تتجاوز مثل هذه المقررات ويصبح على القمم العربية أن تبحث في كل مرة عن نقطة انطلاق جديدة لمعالجة قضايا وأحداث تتغير وتيرتها وإيقاعاتها بسرعة.

وفي تقديري أن فاعلية النظام العربي لم تتوقف أبدا على وجود أو عدم وجود مؤسسة للقمة العربية، أو حتى على انعقاد أو عدم انعقاد هذه القمم بطريقة منتظمة. فلم تثبت أي دراسة جادة في الواقع وجود علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين حيوية النظام العربي ومؤسسة القمة. فقد استطاع النظام العربي، على سبيل المثال، احتواء واحدة من أسوأ أزماته دون ما حاجة إلى أي قمة عربية حين رفض نظام عبد الكريم قاسم عام 1962 استقلال الكويت وهدد بضمها بالقوة المسلحة. وفي المقابل فقد كانت مؤسسة القمة تبدو في أوج نشاطها وتألقها حين قرر صدام حسين غزو الكويت عام 1990 . فقد انعقدت ثلاث قمم عربية في ثلاث سنوات متتالية في نوفمبر1987 وفي يونيو 1988 وفي مايو 1990 دون أن تتمكن من تهيئة الأجواء العربية الكفيلة بردع صدام حسين عن المبادرة بالغزو. وحين عاد مؤتمر القمة للانعقاد مرة ثانية عام 1990 لبحث الأزمة المترتبة على هذا الغزو لم يتمكن من الحيلولة دون تدويلها.

على صعيد آخر يلاحظ أن تقنين آلية الانعقاد الدوري للقمة لم يكن كافيا في حد ذاته لوقاية النظام العربي من الكوارث التي تعرض لها، ومع ذلك كله فليس من الإنصاف التهوين من أهمية القرار الذي اتخذته قمة القاهرة لعام 2000 . فقد أصبح القادة العرب ملزمين ومضطرين للالتقاء معا مرة واحدة على الأقل كل عام. ولن يكون من السهل تنصل أحد من هذا الالتزام ، وإلا تعرض لضغوط نفسية وشعبية هائلة تحمله مسئولية شق الصف العربي. وقد أثبتت الأحداث أن تقنين دورية القمة خلق وضعا جديدا في شكل العمل العربي المشترك. فلم يسبق أن انتظمت اجتماعات القمم العربية في تاريخها على النحو الذي يجري الآن ويتواصل منذ خمس سنوات، رغم جسامة التحديات التي تواجهها الأمة، وهي تحديات تبدو أيضا غير مسبوقة في تاريخها. غير أن ما نود أن نلفت النظر إليه هنا أن دورية الانعقاد لا تكفي لإحداث نقلة نوعية تلقائية في أداء العمل العربي المشترك. فما لم يتمكن القادة العرب من استغلال هذه الآلية لإعادة هيكلة البنية المؤسسية لمنظومة العمل المشترك وفق رؤية وخطط وبرامج زمنية محددة لتحقيق التكامل العربي في كافة المجالات، فسوف تتحول هذه الآلية بمرور الوقت إلى مجرد أداة بيروقراطية تكرس الواقع المترهل القائم.

في هذا السياق يمكن القول إن قمة الجزائر ربما تشكل منعطفا جديدا في تاريخ العمل العربي المشترك ، لأنها ستفصح عما إذا كان القادة العرب قد نجحوا في استيعاب آلية الدورية ، والتأقلم معها وتوظيفها لتكريس الوضع القائم، أما أن هذه الآلية قادرة بطبيعتها على الدفع في اتجاه إحداث التراكم المطلوب نحو نقلة نوعية حقيقية في العمل العربي المشترك. وسوف يكون المحك في هذه القمة هو الموقف من قضية إصلاح النظام العربي والتي لم تعد تحتمل التأجيل. فإذا اكتفت هذه القمة بإقرار تعديل يسمح بإنشاء برلمان عربي نعرف مقدما أنه هزيل ولا سلطات حقيقية له ، فسوف يكون هذا مؤشرا على أن النظام العربي بدأ يدخل من جديد في مرحلة الغيبوبة. أما إذا استطاعت القمة حسم بعض الملفات المعلقة لتغيير آلية اتخاذ القرارات، ولإنضاج الجهود الرامية إلى إنشاء مجلس أمن عربي ومحكمة عدل عربية..الخ، فربما تشكل قمة الجزائر معلما مهما على طريق إحياء الأمل في النهوض العربي.

بقي أن نقول إن فاقد الشيء لا يعطيه. فليس بوسع الدول العربية إقامة نظام مؤسسي فاعل على الصعيد الإقليمي ما لم تتمكن هي من إقامة نظم مؤسسية فاعلة على الصعيد المحلي. من هنا يتعين أن يتواكب الإصلاح الداخلي مع الإصلاح الإقليمي، وأي تباطؤ على أي من المسارين معناه أن العالم العربي غير قابل للإصلاح من داخله. وتلك دعوة مفتوحة للخارج كي يتولى هذه المهمة نيابة عنه.!