المطلوب إنقاذ المستقبل

TT

عبّر الرئيس جورج بوش اخيرا عن اسفه «لموت المستقبل» في الشرق الأوسط. ولأنني اكتب هذا المقال من القدس فانني استطيع ان اؤكد ما ذكره الرئيس. بيد ان هناك وسيلة واحدة فقط لاستعادة ذلك المستقبل، وهي ان تضع أميركا كلا من الامير عبد الله بن عبد العزيز، وارييل شارون، وياسر عرفات، امام واقع يفضلون ان يتجاهلوه. فالامير عبد الله يريد تجاهل الامس، ويريد ارييل شارون ان يتجاهل الغد، اما ياسر عرفات فيريد ان يتجاهل اليوم.

خلال لقاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز بالرئيس بوش امس الارجح ان ولي العهد السعودي كان معنيا بالتركيز على النزاع العربي ـ الاسرائيلي ومبادرة السلام. يهمني هنا القول انني سعيد بأن الأمير عبد الله قدم مبادرة للسلام، ولا شك انها ستساعد فعلا على خلق فرص للسلام، والذين يقولون انها ليست سوى «علاقات عامة» لا يدرون عم يتحدثون.

نحن من جانبنا كأميركيين لدينا قضية تتعلق بالامس، ونريد ان نحسمها مع السعودية، وهي بالتحديد ما يلي: من هم اولئك الخاطفون السعوديون الخمسة عشر الذين شاركوا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما هي القوى التي انجبتهم؟ ان مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف.بي. آي) لا يعرف حتى الآن اجابة عن هذا السؤال، والمملكة العربية السعودية لا تريد تحمل أية مسؤولية عن مواطنيها الذين شاركوا في تلك الهجمات.

بيد ان المجتمع الذي لا يستطيع تحمل المسؤولية لا يمكن ان يباشر تصحيح الذات، وخاصة في ما يتعلق بالمنهج الذي يتبعه في تربية اطفاله والفرص التي يوفرها لهم في المستقبل. ولنتأمل هنا في حادثتين جديرتين بالتأمل: قبل ايام، تضمن ملحق «نيويورك تايمز» الخاص بالتعليم والجامعات خبرا مفاده ان اكثر الكتب مبيعا في الصين على مدى الستة عشر شهرا الماضية هو كتاب باللغة الصينية حول «انجع الوسائل لالتحاق ابنتك بجامعة هارفارد الأميركية». في هذا الكتاب تطرح أم صينية تجربتها الشخصية، وتشرح طريقتها «المثبتة علميا» لالحاق ابنتها بالجامعة الشهيرة. باع هذا الكتاب اكثر من مليون ومائة الف نسخة، وشجع نجاحه على ظهور خمسة عشر كتابا شبيها حول طرق الحصول على قبول في جامعات كولمبيا وأوكسفورد وكمبريدج. وقبل ايام ايضا نشر السفير السعودي في لندن، الدكتور غازي القصيبي، وهو معروف بذكائه، قصيدة مدح فيها الفتاة الفلسطينية ذات الثمانية عشر عاما التي فجّرت نفسها في مخزن تجاري في اسرائيل، واعتبر انها كانت تدافع عن كلمة الله.

ان مجتمعا يقبل على كتاب يتحدث عن كيفية ادخال بناته الى جامعة هارفارد، سيقوم ببناء جامعة هارفارد الخاصة به. اما الذين يمجدون فتاة تحت العشرين تفجر نفسها في مخزن تجاري مكتظ بالمدنيين، فلا يمكن ان يقيموا في أي يوم من الايام وطنا يعتمد على شيء آخر غير النفط. ان اولوياتهم تكون من التشويش بحيث لا تمكنهم من فعل ذلك. صحيح ان اسرائيل لم تكن تدافع عن كلمة الله في جنين، ولكن الانتحاريين ايضا لم يكونوا يفعلون ذلك.

شارون، من جهته، يريد ان يتحدث فقط عن سحق الانتحاريين الفلسطينيين بينما ليست لديه أية خطط للمستقبل. والواقع انني لاحظت مزاجا متناقضا هنا في اسرائيل. فبعد شهور من تلقي الاسرائيليين للهجمات الانتحارية، وبعدما كانوا يتساءلون حول ما اذا كان بمقدورهم ان يستمروا في العيش هنا، جاءت العملية العسكرية الاسرائيلية الاخيرة، فرفعت معنوياتهم وايقظت مشاعرهم بأنهم قادرون على الدفاع عن انفسهم. بيد ان هذا لم يمنع من استمرار وجود هبوط عميق في المعنويات، والدليل ان كثيرين من الاسرائيليين الذين تحدثت معهم قالوا لي ان قائدهم لا يرى من الطريق سوى قبضة يده الحديدية.

ويعتقد كثير من الاسرائيليين ان شارون يشلّه هوسه الشخصي بتدمير عرفات، والولاء للمستوطنات الاستعمارية، ورعبه من ان أي تنازل يمكن ان يفسر كنصر للطرف الآخر. وهذا كله يجعل شارون يفشل في تحقيق ما يريده اغلب الاسرائيليين، أي الحل العملي غير الآيديولوجي الذي يمكن التعبير عنه بالعبارة التالية: «دعونا ننسحب الى هذا الخط. دعونا نتخلى عن المستوطنات. وليكن ذلك هو المشروع الذي نقدمه للفلسطينيين. دعونا نفعل ذلك لانه الطريق الوحيد للمحافظة على ديمقراطيتنا اليهودية. ولنترك كل ما عدا ذلك لأنه لا يهم».

اما عرفات، فهو يريد ان يتحدث عن الأمس، وعن معاناة الفلسطينيين في الماضي، كما يريد ان يتحدث عن غد يرفرف فيه العلم الفلسطيني فوق القدس. بيد انه بالنسبة لهذا اليوم فان عرفات ليست لديه خطط لتهيئة شعبه للقبول بمساومة تاريخية، وليست لديه خطط لبناء مؤسسات فلسطينية، وليست لديه مشاريع للاستفادة من الانتفاضة للوصول الى اتفاقية سلام مع اسرائيل. ان البلهاء الأوروبيين الذين سارعوا الى حماية عرفات، يحتاجون لمن يقول لهم ان هذه الانتفاضة عندما بدأت كانت موجهة جزئيا ضد الفساد في سلطته، ولكنه استطاع ان يعيد توجيهها ضد اسرائيل بالكامل، وقد تلقى المساعدة في ذلك من شارون، ولكنه استطاع ايضا ان يدمر الاقتصاد الفلسطيني وان يقضي على معسكر السلام الاسرائيلي، مع انه القوة الوحيدة القادرة والمستعدة للموافقة على قيام دولة فلسطينية.

في كامب ديفيد قال بيل كلنتون: «قد لا ننجح ولكن كل العالم سيرانا ونحن نحاول». ولا يستطيع بوش ان يعيد تشكيل افكار الامير عبد الله او شارون او عرفات، لكنه يستطيع ان يحاول، وذلك بقول الحقيقة لهم ولمجتمعاتهم، التي ما يزال فيها الكثيرون ممن يريدون انقاذ المستقبل ممن لا يعرفون اسم اليوم الذي يعيشونه! =