أسئلة مهمة.. وأجوبة ساذجة!

TT

أسئلة وتساؤلات عديدة تُثار حول بعض جوانب الصراع الشرس الدائر، الآن، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بين شارون وعرفات.. وتذهب الإجابات أو محاولات الإجابة كل مذهب. ومن هذه الأسئلة والتساؤلات: لِمَ لا يقتل شارون عدوه اللدود عرفات مع أنه قادر؟

ولا شك في أن هذا السؤال جدير بالإجابة إذا ما نزعنا عنه الطابع التشكيكي، وإذا ما انطلقنا في محاولة الإجابة عنه من أرضية سياسية واقعية لا تمت بصلة إلى فكرة «المؤامرة» الخرقاء.

إنّ شارون يستطيع قتل عدوه اللدود عرفات إذا ما استبدت به الحماقة وأعمته عن رؤية تلك المصالح الاستراتيجية (وبعضها إسرائيلي) التي يصيب منها مقتلا بقتله الرئيس الفلسطيني، فالذي يحمي الرئيس عرفات إنما هو تلك المصالح الاستراتيجية الكبرى، التي ستصبح كريشة في مهب الريح إذا ما زينت الحماقة للسفاح شارون قتل عدوه اللدود هذا.

وثمة من نظر إلى الأمور وفسرها بالطريقة الآتية: إنّ الحل النهائي الممكن واقعيا في ضوء ميزان القوى القائم يحتاج إلى شيئين; قوة تذلل العقبات الفلسطينية والعربية، وقلم الرئيس عرفات لتوقيع هذا الحل، الذي يمكن ويجب أن يرى النور بعد، وبفضل، تذليل تلك العقبات، التي من بينها ظاهرة «القنابل البشرية» والسقف العالي نسبيا لمطالب الشارع الفلسطيني. وبما أن الرئيس عرفات، وفق هذا التصور السياسي الساذج، لا يمكنه أن يكون تلك القوة من دون أن يفقد صلاحيته لأن يكون «قلم التوقيع» فقد كان لا بد من اللجوء إلى «البلدوزر» شارون، الذي بقيامه بهذه المهمة في الوقت الذي يعزل عرفات إنما يزيد في شعبية الرئيس الفلسطيني، التي لا بد من زيادتها من أجل توقيع الحل النهائي.

والراهن أنّ الذي حدث ويحدث لا يمت بصلة إلى هذا التفسير الساذج، ففي منتجع كامب ديفيد قال كلا الخصمين، عرفات وباراك، كلمته النهائية في «الحل النهائي»، شكلا ومحتوى، وقد فشل الرئيس كلينتون بسبب انحيازه إلى وجهة النظر الإسرائيلية في جسر الهوة بين الطرفين، اللذين كان كلاهما يعتقد أن لديه من أوراق الضغط غير المستعملة ما يمكنه من فرض وجهة نظره على الآخر، وتعزيز مركزه التفاوضي.

وهكذا اتفق الطرفان، ضمنا، مع الموافقة الضمنية للوسيط الأميركي المنحاز إلى إسرائيل، على الذهاب إلى الحرب، التي فيها الاختبار الحقيقي والحاسم لكل ما يملكه كلاهما من أوراق ضغط ومن قدرات في «فن الإكراه».

ذهب عرفات إلى الحرب ولديه اعتقاد جازم بأنه يملك، وسيملك، من القوة الفلسطينية والعربية والدولية ما يمكّنه، في آخر المطاف، من أن يفرض على إسرائيل والولايات المتحدة التسليم بالمطالب الفلسطينية. أما الدولة العبرية، التي أحلت شارون محل باراك استعدادا لهذه الحرب الحاسمة، فقد كانت مطمئنة إلى أن حليفها الاستراتيجي، الولايات المتحدة، سيزج بكل ثقله الديبلوماسي والسياسي في المعركة إلى جانبها، مع منعه، في الوقت نفسه، الفلسطينيين من الإفادة من الثقل العربي والإسلامي والأوروبي.

المعركة لم تنته بعد، ولكن لم يبق لدى الفلسطينيين ورئيسهم المحاصر في مكتبه من أوراق الضغط، التي اعتقدوا بامتلاكها أو بقدرتهم على امتلاكها، سوى الورقة الأخيرة والحاسمة.. ورقة المقاومة والصمود، فإما أن يهدموا المعبد عليهم وعلى أعدائهم وإما أن ينتصر السلام الذي ينصف حقوقهم القومية.

لقد أنتجت الحرب الشارونية وقائع جديدة في منتهى القسوة بالنسبة إلى الفلسطينيين، ويمكن أن تضطر هذه الوقائع السلطة الفلسطينية إلى التكيف، سياسيا، وفقها، في طريقة تؤدي إلى تخفيف ضغوطها، وتغييرها من ثم، ولكنها لن تنال من قوة تصميم الفلسطينيين على رفض أي حل غير عادل وغير واقعي وغير متكافئ لمشكلتي اللاجئين والقدس الشرقية بأماكنها الإسلامية والمسيحية المقدسة، فالهدف السياسي النهائي للفلسطينيين ليس من نمط الأهداف التي يمكن تدميرها بالقنابل والصواريخ.

النزاع لن ينتهي، أبدا، إلا عندما تنتفي حاجة كلا الطرفين إلى بقائه واستمراره. أمّا انتفاء هذه الحاجة فيجب أن يبدأ بتعلم قول الحقيقة مهما كانت مرة، فالإسرائيليون يجب أن يتحرروا من تأثير الأكاذيب الكبرى لباراك وشارون، فرئيس وزرائهم السابق قال زورا وبهتانا انه اقترح على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في منتجع كامب ديفيد حلا نهائيا في منتهى الكرم والسخاء، ولكنه رفض، لأنه يعتزم اتخاذ قضية اللاجئين وسيلة للقضاء على دولة إسرائيل، أمّا رئيس وزرائهم الحالي فكانت كذبته الكبرى أن الفلسطينيين، وبعدما فشلوا في تدمير الدولة العبرية عبر الحل الذي اقترحوه لمشكلة اللاجئين، لجأوا إلى أعمال العنف والإرهاب، فصار ينبغي للإسرائيليين، بالتالي، أن يقفوا من ورائه وقفة رجل واحد لدرء التهديد الفلسطيني المزعوم عن مبدأ وجودهم.

صدّق الإسرائيليون هذه الأكاذيب الكبرى، وإذ أثارت «القنابل البشرية» الذعر والهلع في قلوبهم أيدت غالبيتهم العظمى السفاح شارون في أن يفعل كل شيء وأي شيء من أجل إراحتهم من هذا الكابوس ولو اقتضى الأمر القضاء على كل فرص السلام مع الفلسطينيين ومع العرب كافة، فالخوف كان، دائما، قوة منتجة للحماقة، إنهم، الآن، وقد ألغت عقولهم أضاليل وأوهام الحرب الشارونية ضد «الإرهاب الفلسطيني»، ضربوا صفحا عن الحقيقة الكبرى وهي أن قرار هذه الحرب اتخذ في منتجع كامب ديفيد، وقبل اعتلاء شارون سدة الحكم في إسرائيل، فالحرب إنما تقررت لتحطيم الإرادة السياسية للفلسطينيين، شعبا وسلطة، حتى يقبلوا حلا نهائيا تخرج من أحشائه «إسرائيل العظمى».

«الوسيط الأميركي»، في أشكاله ومستوياته المختلفة، يزور الرئيس عرفات في مقره المدمر المحاصر في رام الله ليجس نبضه، وليقف بنفسه على تأثير نتائج الحرب الشارونية في جهاز المناعة السياسية لديه. إنه يحرص على زيارته بين ضربة شارونية وأخرى، مخرجا من جيبه «ورقة جديدة»، مملوءة بالشروط والمطالب «الأمنية» حتى إذا وافق عليها الرئيس الفلسطيني تأكد «الوسيط الأميركي» أن الحلول الإسرائيلية لمشكلتي اللاجئين والقدس الشرقية باتت ممكنة، فهذا «الوسيط» ينظر إلى موقف الرئيس عرفات من تلك الشروط والمطالب «الأمنية»، التي تندرج في إطار «مكافحة الإرهاب»، على أنها أدق مقياس لإرادته السياسية.

لعبتهم السياسية تقتضي، الآن، التجاهل التام للجذور السياسية للحرب الشارونية ولا سيما مشكلتي اللاجئين والقدس الشرقية، فهم لا يجرؤون على القول انهم يخوضون هذه الحرب من أجل إرغام الفلسطينيين على قبول الحلول الإسرائيلية لهاتين المشكلتين. إنهم يكتفون بالقول أن هذه الحرب، التي تمعن تدميرا في مقومات الوجود القومي والإنساني للفلسطينيين، لا تستهدف سوى إقناع السلطة الفلسطينية بضرورة نبذ ومكافحة «الإرهاب» ولا سيما «القنابل البشرية»، وكلما اكتشف «الوسيط الأميركي»، عبر بالوناته الأمنية الاختبارية، أن الإرادة السياسية للرئيس عرفات لم يعترها وهن بدأ شارون كرّة أخرى، وتراجع هذا «الوسيط» عما أطلقه من قبل من وعود وتعهدات، أمّا شارون، الذي يفهم السياسة على أنها ما ينبع من فوهة البندقية، ويزن نتائج حملاته الحربية بالميزان العسكري الميداني فحسب، أعلن انتهاء المرحلة الأولى من عملية «السور الواقي»، وبدء المرحلة الثانية، التي لن تكون الأخيرة، مفضلا عدم الخوض في شرح تفاصيلها وأبعادها وأهدافها.

ولكن الواقع يحدثنا عما تعمد الجنرال الضيق الأفق كتمه وإخفاءه، فالقوات والدبابات الإسرائيلية تخرج من المدن الفلسطينية التي كانت في داخلها لتضرب حولها حصارا محكما تتخلله أعمال دهم وتفتيش واعتقال واغتيال وتدمير، أي أن القوات الإسرائيلية المحاصِرة لهذه المدن تستمر، في الوقت نفسه، في شن هجمات عسكرية سريعة وخاطفة.

ما يعتزم شارون فعله، الآن، هو عزل المواطنين الفلسطينيين في داخل مدنهم المدمرة منازلها ومدارسها ومستشفياتها ومؤسساتها ومنشآتها وشوارعها ومرافقها وبناها التحتية.. فعملية إعادة البناء والتعمير تظل مؤجلة، وكذلك تظل مؤجلة عملية إعادة بناء أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ومراكزها الأمنية وغير الأمنية.

يعتزم شارون تحويل هذه المدن إلى مخيمات تصل إليها المعونات الغذائية والطبية والإنسانية عبر الحواجز ومراكز التفتيش الإسرائيلية المقامة حولها.

ويتوهم شارون أنه بهذه الطرائق والأساليب والإجراءات سيهيئ المناخ لبروز قيادات محلية بديلة مع قوات محلية من نمط «جيش لبنان الجنوبي» لحفظ الأمن والنظام ولحراسة الأمن الإسرائيلي، فيكافئ كل مدينة بما يتناسب وحجم تحولها في هذا الاتجاه الشاروني.

أما أوراقه الرابحة، وفق ما يتوهم، فهي غياب أو تغييب أجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية، ووجود الآلاف من خيرة الشباب الفلسطيني المقاوم في معسكرات الاعتقال الإسرائيلية النازية، واشتداد وطأة الأزمة المعيشية للمواطنين الفلسطينيين، وثبوت وتأكد العجز العربي والدولي عن مساعدة الفلسطينيين في محنتهم الإنسانية والسياسية.

* كاتب فلسطيني ـ الأردن