زلزال لوبن

TT

بيننا نحن المغاربة ولوبن، جثة ابراهيم بوعرام، الذي اغتاله حليقو الرؤوس من اليمين المتطرف، وألقوا به في نهر السين، في فاتح مايو .1995 حدث ذلك في غمرة تصاعد العنف ضد المهاجرين. وكان لوبن قد أدرك حجم ما اقترفه أنصاره المهتاجون، ورغب في أن يستقبله الملك الراحل الحسن الثاني. واعتذر فعلا عن تلك الجريمة، في رسالة وجهها الى جريدة «لومند»، التي رفضت ان تنشرها، لأن التبرؤ كان مجرد نفاق.

ورفع لوبن دعوى على «لومند»، وفرضت المحكمة على الجريدة أن تلتزم بالقانون. ونشر بيان الحقيقة، على مضض، بعد عام ونيف من حادث عيد العمال، الذي تلطخت فيه يد اليمين المتطرف بدم المغربي بوعرام.

الآن ، يلقى لوبن رفضا صارما لأنه ليس سياسيا كباقي السياسيين. الكلمة الأولى التي خرجت من قاموس الغضب والتقزز، هي «الشعور بالعار». وانبعثت في المظاهرات، من أعماق ذكريات مقاومة الفاشية، تلك الصرخة التي أطلقتها الكتائب الدولية على أبواب مدريد في 1936 «نو باصاران». وقرر اليسار الوقوف في الدور الثاني للاقتراع، ليس بالضبط الى جانب شيراك، ولكن ضد لوبن. جثة بوعرام وأشياء أخرى كثيرة، تجعل حادث يوم الأحد الماضي في فرنسا، مدعاة الى التفرس فيه والتعمق في معانيه.

اقترن في يوم 21/4 الصعود المثير لجان ماري لوبن، والحكم القاسي على ليونل جوسبان. الأول عرف كيف يعبر عن مشاغل نمت في المشهد السياسي الفرنسي. وهي مشاغل شتى تتراوح من العولمة والأوربة، الى الأمن والبطالة، وبينهما مسألة الهوية. والثاني جوسبان، الذي كان ضحية قصر الذاكرة التي لم تستحضر الجوانب الإيجابية في أداء حكومته، كما كان ضحية للعبة الأرقام. محافظات ما وراء البحار هي وحدها التي لم يتخط فيها اليمين المتطرف 5 في المائة.

قبيل اسدال الستار على الحملة الانتخابية، كان 46 في المائة من الفرنسيين، قد صرحوا بأنهم غير مقتنعين، ببرامج المرشح الذي قرروا التصويت له، في الدور الأول لانتخابات الرئاسة. وحتى يوم السبت كان 40 في المائة من الفرنسيين مترددين تجاه المرشحين الستة عشر الذين كانوا يطلبون أصواتهم. وهذا وذاك علامة على أن المفاجأة كانت واردة. أما لماذا كان الناخبون الفرنسيون مترددين، وأما لماذا تشتتت أصواتهم، وأخيرا لماذا أمسك ثلثهم عن التصويت (27.63 في المائة) فانها أسئلة تحيل الى أسئلة عويصة شتى، تصب في خانتين، الأولى هي أداء السياسيين الفرنسيين في حد ذاته من جهة، ومن جهة أخرى تبلور فهم مغاير من لدن الجمهور لممارسة الشأن العام.

من التسرع الحكم على ما يحدث في المجتمعات المتقدمة، بأنه رفض للسياسيين، أو تعبير عن رفض اليمين أو رفض اليسار، أو فشل اليمين أو فشل اليسار. لقد تكرس في أوربا توجه معين يرجع في جذوره الى تولياتي وكاريليو، اللذين بحثا عن شيوعية أوربية مغايرة، وإلى متيران وغونثالث وبلير، في سعيهم للحفاظ على قيم اليسار وفي نفس الوقت الامتثال للتغيير المؤدي حتما الى التخلي عن الدوغماتية التي أصبحت متجاوزة في غمرة ما طرأ على الأفكار من تطور، نتيجة الامتثال لتطور المتطلبات.

ان ما يحدث الآن ليس هو تخلي الاشتراكية عن مبادئها، أو أن الاشتراكية فشلت، كما أنه لا يعني أن «نهاية التاريخ» قد أنصفت اليمين. ان ما يحدث ببساطة هو أن هناك تطورا. هدمت الأحزاب الجدار الثالث، من أجل التواصل مع حقيقة الشارع، ومن أجل الإنصات الى نبض المجتمع المدني، مع تطعيم جسدها بأصوات وخبرات من خارج أسوارها، وراهنت على الوسط.

هكذا فعل اليمين الإسباني الذي طبق بقيادة أثنار قاعدة اما ان تتغير أو يتكفل الزمن بتغييرك، فأفرز خطابا نقل حزبه الى خانة وسط يمين عصري. ومثله فعل من قبل غونثالث الذي أنذر حزبه بالموت ان لم يزح من برنامجه مقولة ديكتاتورية البروليطارية، وعرف كيف يقود المسيرة نحو اشتراكية عصرية بملامح انسانية. ببساطة ان الأحزاب، وقد نزعت عنها الدوغماتية، اتجهت الى ابرام عقد مع المجتمع مراهنة على الوسط الذي يطالبها ببرامج مرقمة، وتعهدات واضحة، من خلال تخفيض الضرائب، وآليات فعالة لإيجاد مناصب شغل، وتحريك الاقتصاد في اتجاه تعميم الرفاهية، وبطرق تسيير شفافة وناجعة. لم يكن جوسبان، وهو التروتسكي السابق، منشغلا بشيء آخر غير هذا. والبرنامج الذي طرحه في حملة الرئاسة، لم يكن له من هدف الا أن يتسابق مع شيراك، وليس أن يكون مطابقا لإصحاحات دوغماتية.

في غمرة هذا وقعت المفاجأة التي حملتها الأرقام في انتخابات فرنسا يوم الأحد، وكل رقم له تفسيره. ومما حملته الأرقام أن هناك فئتين هما الممتنعون، والمتطرفون من الجانبين. الفئتان هما افراز لحالتين، اما خطاب لم يصل، واما احتجاج على عدم الانصات. والآن يكاد الدور الثاني لانتخابات الرئاسة، يكون بمثابة رفع الستار عن الدور الثالث، المتمثل في الانتخابات التشريعية التي ستجرى في يونيو. بمعنى أن الدور الثاني لانتخابات الرئاسة ستكون وظيفته الوحيدة هي سد الطريق على اليمين المتطرف. أما الفرز السياسي ففي يونيو. ويحاول شيراك من الآن أن يبني يمينا قويا بزعامة الحزب الدوغولي، لضمان عدم تكرار تجربة التعايش مع حكومة من اليسار. ولا يعرف ما اذا كان اليسار سينجح في أفق يونيو في أن يتكتل مثل اليمين.

في اليمين تطرف يمكن عزله. أما في اليسار فهناك تطرف يقترح بديلا هو أقرب الى السراب. فما يقترحه اليسار المتطرف فيه غير قليل من الدوغماتية، التي تضرب رأسها على جدار حقائق ما بعد برلين، وما بعد العولمة، وما بعد ماستريشت، وما بعد كثير من الأشياء التي تنتمي الى الماضي، أو تجر الى مجال نظري، ليس هو ما يصوت له الناخبون.

قلت ان جثة بوعرام ليست وحدها التي تربطنا مع ما وقع في 21/.4 هناك سؤال ليس مقحما. هل يمكن أن تأتي مفاجأة/ زلزال في المغرب؟ لنرسم المواصفات المغربية للزلزال؟ هناك ثلاثة ملامح. أولا أن نعود الى ما سبق اقامة حكومة التناوب التوافقي، من عودة حكومات يتم تكوين أغلبية لها مسيرة عن بعد، على حساب خريطة سياسية حقيقية. ثانيا، هي أن أن يسود في المعسكر الديمقراطي تفكير انتخابوي مثل ذلك الإغراء الانتهازي بترك اقامة التحالفات الى ما بعد نتائج سبتمبر. وثالثا أن يقع التركيز على الإخراج وليس على النص، لانتزاع الاعتراف بجمالية المظهر على حساب متانة المخبر. رابعا استمراء أن تكون هناك حكومة ولا حكومة في آن واحد.

ليس المغرب بلدا صناعيا عصريا، لنطبق عليه اسقاطات من واقع ما جرى في فرنسا. ليس المغرب هو محور الرباط الدار البيضاء. ولكن هناك ما لا يقل عن 17 حزبا يفكر أصحابها على هذا المنوال. وبالمقابل هناك أربعة أو خمسة خطابات تسري في المجتمع، بدون حاجة الى الترجمة، وسيكون ضربا من العبث المراهنة على التعويم. نحن مقدمون على خطوة مؤسسة. هناك ضرورة قصوى لكي تكون هذه الخطوة في موقعها المناسب. اننا نريد أن نبني المستقبل على أساس الاستقرار، واعتمادا على استكمال المسيرة من حيث وصلت وليس اقتراح مقاربات تبدأ من الصفر.