زلزال لوبن وما بعده.. داخل فرنسا وخارجها

TT

فرض الشارع الفرنسي ارادته وسلب من التحالف اليساري بقيادة ليونيل جوزبان احتمال فوز خليفة فرانسوا متران برئاسة الجمهورية للخمس سنوات القادمة.

وتحدث الفرنسيون عن تصويت عقابي، تماما كما قال بعض الجزائريين، بعد انتخابات ديسمبر 1991، أن الشعب أعطى الأغلبية للجبهة الاسلامية للإنقاذ عقابا لنظام الحكم على وأده لأحلام الجماهير، التي كانت جوهر مشروع هواري بومدين.

وعرفت فرنسا، تماما كما عرفت الجزائر يومها، أكبر نسبة امتناع عن التصويت، لأنه لم تكن هناك قيادة قادرة على اجتثاث خيبة الأمل التي كان يشعر بها المواطنون.

وعقدت المقارنات بين جان ماري لوبن في فرنسا وعباس مدني في الجزائر، وقالت احدى صحفنا ساخرة بأن هناك من الجزائريين من سيقترح على الفرنسيين تشكيل لجنة لإنقاذ فرنسا من الفاشية، على غرار ما عرفناه في 1992، حيث أوقف المسار الانتخابي بإلغاء الدور الثاني من الانتخابات، وطورد انصار الجبهة المنتصرة، وانتهى الأمر بالجزائر الى عشرية دموية، وتحولت البلاد الى ما يشبه الطائرة المختطفة.

ولم تكن فرنسا المخابراتية والمالية بعيدة عما حدث، وهو ما تعامى عنه سياسيون كثيرون، بينما ادركه، بالغريزة، شباب من ابناء المهاجرين لم يعرف الجزائر، ولكنه يدرك بأن فرنسا ليست بلاده، فأرسل عبر التهريج والتشويش برقية واضحة لبلاده الأصلية التي اهملته، والى البلاد التي تبنته فأساءت الرعاية.

وقد اشرت الى ذلك هنا منذ عدة اسابيع، وطالبت بدراسة ما حدث في ملعب الكرة الفرنسي، حيث وقف ابناء واحفاد المهاجرين الجزائريين تحية للنشيد الجزائري الذي لا يحفظه معظمهم، بينما تعالى صفيرهم ازدراء بالسلام الوطني الفرنسي في حضور ليونيل جوزبان نفسه، وقلت بأن ذلك حدث سيكون له ما وراؤه.

الفرانكومان عندنا اعتبروا ما حدث قلة ادب، وكانت ردود فعلهم اكثر تشنجا من ردود فعل الفرنسيين انفسهم، الذين اضطربت بوصلتهم فلم يحاولوا التعمق في الاسباب الحقيقية لفشل سياسة الادماج الفرنسية، ولاهتزاز سلطة الاشتراكيين، رغم انجازات كثيرة حققها جوزبان، وهو سياسي نزيه وكفء، لكن مأساته هي أنه ورث كل خطايا الاشتراكيين الفرنسيين، واهمها، في ما يتعلق بالوطن العربي، المشاركة في الاعتداء الثلاثي على مصر، واهمها في ما يتعلق بالجزائر السياسة الحمقاء التي واجهت بها فرنسا ثورة الجزائر، وترجمها تصريح وزير الداخلية آنذاك، فرانسوا متران، بأن الحرب هي وسيلة المفاوضات الوحيدة مع الجزائريين.

والواقع هو أن ما حدث يوم 22 ابريل في فرنسا يمكن ان يعتبر من تداعيات احداث تفجيرات سبتمبر، المرتبطة بالمفهوم الأمريكي لمكافحة الارهاب، الذي كان انجيل السلطة الفرنسية منذ نهايات القرن الماضي، مطاردة للنشطاء الاسلاميين، ثم تزايد التركيز عليه بعدما رفعت واشنطن لواء مكافحة الإرهاب، وأعادت العمل بمبدأ فوستر دالاس: من ليس معنا فهو ضدنا.

وهكذا كان الجزع الأمني سبب تكاتف الكثيرين وراء لوبن، الذي يرفض الاتهام بالفاشية، ويقول بوضوح انه يعطي الاسبقية للفرنسيين في كل شيء، وهو منطق سليم يدركه كل من يتجول في شوارع فرنسا، ويحس مدى التلوث البشري الذي تعانيه من جراء الذين يتنفسون السخط على مجتمع فرنسي تزايدت في اوساطه النقمة على الغرباء الذين يسرقون مناصب العمل من المصانع وحقائب اليد من السيدات ومحافظ النقود من راكبي المترو.

ويسجل لجان ماري لوبن انه كان واضحا كل الوضوح بالنسبة لموقفه، كفرنسي، تجاه اسرائيل، وبأنه اختار لحزبه رمزا نضاليا تاريخيا، بغض النظر عن الجانب الاسطوري فيه، وهو رمز جان دارك، التي حرقها البريطانيون حية، كما يسجل له موقف واضح وصريح في دعم الشعب العراقي، وفي رفض الهيمنة الامريكية والذوبان في الكيان الأوروبي.

وربما كان من أطرف مقولات لوبن انه يميني اقتصاديا لأنه يؤمن بالليبرالية، ويساري اجتماعيا لأنه ينادي بإعطاء الحقوق للعمال بمختلف شرائحهم.

غير ان اكبر جرائم لوبن في نظر بعضنا هي رفضه لازدواجية الجنسية، وهي كارثة تعاني منها الجزائر، وجعلتها، نتيجة لسوء التدبير، ترعى طابورا خامسا يغير افراده جواز السفر بمجرد وصولهم الى المطارات الفرنسية، ويخير ابناؤهم بين اداء الخدمة العسكرية في الجزائر أو في فرنسا، ويعتبرهم كثيرون من أسباب تعفن الجرح الجزائري ان لم يكونوا من أسباب الجرح نفسه.

كل هذا كان فرصة لاستعراض بعض غوامض القضايا الفرنسية، ولكنه ايضا فرصة لأذكر ببعض ما سبق ان قلته، من أن فرنسا لاعب رئيس على الساحة الأوروبية، وبأن اوروبا هي الحليف القادر على مواجهة الهيمنة الأمريكية التي تجاوزت كل الحدود في دعمها للعدو الاسرائيلي، مما يؤكد انها هي العدو الرئيسي. وهو ما يجعلني اطالب كل المثقفين بوقفة جماعية هادئة نراجع فيها كل حساباتنا ونحدد اسلوب العمل المستقبلي الذي يحمي مصالحنا بل ووجودنا نفسه.

وأتصور ان قاعدة العمل يجب ان ترتكز اساسا على التفرقة بين الفكر الأوروبي والفكر الأمريكي.

وأقصد بالفكر هنا النظرة الاستراتيجية المعبرة عن ثوابت الأمة التي تتحكم في المواقف وتحدد السياسات وتؤثر على الاحداث.

والثابت اليوم هو اننا أقرب الى الفكر الأوروبي بحكم التاريخ المشترك، بغض النظر عن رجوح كفة السلبيات فيه، كما اننا اقرب له بحكم تراث ثقافي عريق ومتكامل امتزجت فيه الحضارات، وليس هناك من بيننا من يعيش عقدة اللقيط الحضاري.

وليس سرا ان تكامل المصالح الاقتصادية بين الشمال الأوروبي والجنوب الافريقي الآسيوي، وربما امريكا الجنوبية في مرحلة قادمة، هو مكسب للجانبين، خصوصا أن النفط على وجه التحديد هو اهم القواسم المشتركة، في الوقت الذي تملك فيه الولايات المتحدة مخزونا نفطيا يمكنها من ابتزاز الجميع على المدى القصير والمتوسط.

وليس هناك ما يربطنا بالفكر الامريكي الذي يعبر عن نظرة استعلائية، جوهر يقينها لا يختلف عن فكرة شعب الله المختار التي تحرك الفكر الصهيوني، ويتمثل ذلك في اسطورة الواسب WASP، التي تستلهم ذاكرة جماعية تعتز بالانتصارات الدموية على السكان الاصليين في العالم الجديد، وهو ما يزيد من انسجامها مع الممارسات الاسرائيلية، ويضاف الى هذا كله تقارب المذهب البروتستانتي الامريكي مع حكايات العهد القديم التوراتية.

وهنا تبدو ضرورة اعادة دراسة الواقع الدولي لتحديد استراتيجية شاملة يكون من أهم عناصرها تحقيق أكبر انسجام ممكن مع أوروبا الجديدة.

وكما جعلنا من «الاير باس» منافسا لعائلة «بوينغ» علينا ان نجعل من «الاورو» منافسا حقيقيا للدولار، لكي لا تبقى الورقة الخضراء إله العالم الواحد، ومن منطلق ان تعدد الآلهة يسقط حقوق الالوهية.

واذا كنت قلت بأن فرنسا لاعب رئيس على الساحة الأوروبية فإن علينا ألا ننساق وراء طروحات سياسية، فرنسية أو شبه فرنسية، تتناقض مع ارادة الشعب الفرنسي نفسه.

ولا يمنعني تقديري لصلابة لوبن من أن أعبر عن تقديري لشخص جوزبان، الذي لا اتصور ان مستقبله السياسي قد انتهى.

وسيكون شيراك هو الرئيس المقبل، لكن الجبهة الوطنية ستكون لها كلمتها في سير الأحداث، وسيكون لهذا انعكاساته على المستقبل العربي.

وهنا تبدو اهمية توزيع الأدوار على عناصر الساحة العربية، دولا ومؤسسات ومثقفين.

ولتكن عيوننا مفتوحة دائما على الجاليات العربية والاسلامية، التي حاولت اللوبيات الصهيونية استثمار «فوبيا» سبتمبر لحصارها وتعقيدها ثم التخلص من تأثيرها على المجتمعات التي تحتضنها.