ماذا وراء صعود اليمين المتطرف في فرنسا!

TT

كان لا بد ان يصل مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن للدور الثاني من المنافسة الرئاسية لكي يستعيد الشارع الفرنسي حيويته السياسية المعروفة التي بدا انه فقدها في السنوات الاخيرة، التي انهارت فيها التشكيلات الحزبية العتيدة، وتقلص زخم الزعامات الكبرى، وبرزت تيارات نشاز في الحقل السياسي الموروث عن قيم الثورة الفرنسية ومبادئها التي حملت لواء مقولات ومعايير التنوير والنزعة الانسانية الى الساحة الاوروبية بأكملها.

ومع ان اليمين المتطرف غدا طيفا مألوفا في الفضاء السياسي الفرنسي خلال العشرين سنة الاخيرة، الا انه لم يكن ليهدد التوازانات الكبرى التي تنظم هذا الفضاء لولا تفاقم ازمة المؤسسة الحزبية التقليدية التي طالت الاحزاب اليمينية واليسارية معاً، وخلفت فراغا خطيرا غدت آثاره ملموسة في مستوى النموذج الديمقراطي الفرنسي ذاته.

فكيف امكن لرمز التطرف والتعصب القومي والعنصرية ان يهزم مرشح اليسار الجمهوري الذي هيمن على المعترك السياسي خلال العقدين الاخيرين، بحيث ان خمس الناخبين صوت لهذا الطيف النشاز (اذا جمعنا النسبتين اللتين حصل عليهما لوبن وميغري المنشق عنه).

ذلك هو السؤال المحوري الذي يستأثر حاليا باهتمام دوائر الرأي والفكر في فرنسا التي اعتبرت الحدث «زلزالا» خطيرا له ما بعده.

ولا يمكن فهم ظاهرة صعود اليمين المتطرف دون ربطها بظاهرة اخرى ذات صلة عضوية بها، هي واقع تشتت التيارات التقليدية وتآكلها، اذ لم تستطع تقديم مرشحين ينعقد عليهم الاجماع، مما يفسر كثرة المتسابقين وتعددهم في الحلبة الرئاسية: خمسة من التيار الاشتراكي، وثلاثة من الحساسية التروتسكية وثلاثة من اليمين المعتدل، في الوقت الذي تشابهت فيه الى حد التماثل برامج الكتلتين اللتين كانتا تتوزعان الحكم في السنوات الخمس الاخيرة (اليمين الذي يمثله الرئيس جاك شيراك واليسار الذي يمثله رئيس الحكومة ليونيل جوسبان).

وهكذا حصل شيراك على اضعف نسبة حققها مرشح من موقع الرئاسة باقل من 20 في المائة من اصوات الناخبين، حتى ولو احرز المركز الاول في السباق (بنتيجة اقل من تلك التي غنمها في انتخابات عام 1995)، في الوقت الذي لم يتمكن فيه منافسه الاساسي جوسبان من الاحتفاظ بنسبة 24 بالمائة التي احرزها في انتخابات عام 1995، فضلا عن احتفاظ ممثلي تحالفه البرلماني مجتمعين بنتيجة 40 في المائة التي حصلوا عليها في الانتخابات التشريعية عام 1997.

ومن هنا ذهب العديد من المحللين والمراقبين (من بينهم جوسبان نفسه) الى ارجاع هزيمة اليسار الى تشتت اصواته وتعدد مرشحيه، وهي ظاهرة لا تفسر شيئا، بل هي من مظاهر الازمة وملامحها، باعتبار ان مختلف التيارات بما فيها اليمين المتطرف نفسه عانت من الانقسام والتشتت.

وانما يتعين تنزيل صعود اليمين المتطرف في اطار التغيرات العميقة التي شهدها الحقل السياسي الفرنسي، بل الاوروبي برمته، كما تبين لاحقا.

ومن ابرز مؤشرات هذا التحول نسبة العزوف العالية عن المشاركة في التصويت التي وصلت هذه المرة الى 28 في المائة، تضاف اليها نسبة الاصوات الملغاة والبيضاء، في الوقت الذي صوت فيه 40 في المائة من الناخبين ضد الاحزاب الجمهورية من اليمين واليسار، بينما انهار احد هذه الاحزاب انهيارا كليا، وهو الحزب الشيوعي الذي لم يحقق اكثر من 4 في المائة في الانتخابات، وبدا ان قاعدته توزعت ما بين اليمين المتطرف واليسار الراديكالي.

ان هذه الملاحظة قابلة من دون شك للتعميم الى باقي الساحات الاوروبية التي شهدت بايقاعات متباينة صعود اليمين المتطرف على انقاض التشكيلات الحزبية التقليدية، بدءا بالنمسا التي وصل فيها ممثل اليمين المتشدد يورغ هايدر الى السلطة عام 2000 قبل ان تليها ايطاليا عام 2001 بوصول سيلفيو برلسكوني للحكم، في الوقت الذي يشارك فيه حزب السيدة بيا كيارسجارد المتطرف في حكومة ائتلافية يمينية بالدنمارك، ويشارك حزب مماثل له في الحكومة البرتغالية الجديدة، ونشهد نموا سريعا للتيار ذاته في هولندا وسويسرا.

ومن المفارقات المثيرة ان ظاهرة صعود اليمين المتطرف لا تعكس ازمة اقتصادية او اجتماعية خانقة في الساحة الاوروبية (كما كان الشأن عليه في منتصف القرن المنصرم)، حتى ولو بدا من الواضح ان الفئات العمالية وصغار المزارعين غدوا اقرب لليمين المتطرف من اليسار الشيوعي، وانما تنبع الظاهرة على الاصح من الانزياح المتزايد بين الحقل السياسي والمجال المجتمعي الذي شهد تحولات جوهرية في العقدين الاخيرين، بتأثير مزدوج من ديناميكية العولمة وحركة الاندماج الاوروبي، مما يفسر تركز المطالب السياسية الجديدة على مقتضى الهوية والانتماء.

فالوسائط التقليدية التي كانت تقنن اطار العلاقة بين المواطن والدائرة العمومية تقلصت وتراخت قبضتها، سواء تعلق الامر بالاحزاب او النقابات او هيئات المجتمع المدني بما فيها المؤسسة الكنسية، بقدر ما ان اطار الانتماء القومي ذاته (اي الدولة ـ الامة) غدا مهددا بحركة القولبة الاندماجية وبواقع التعددية القومية والثقافية المنجرة عن حركة الهجرة.

وكما يبين عالم الاجتماع الفرنسي المعروف آلان تورين، فان السؤال الاساس المطروح اليوم في الساحة الاوروبية هو: كيف يمكن الجمع في آن واحد بين مقتضيات اقتصاد فعال وناجع، ومجتمع اكثر عدالة، ووحدة وطنية اكثر احتراما للاختلافات فهذه الاهداف تبدو متعارضة، بيد انها مطالب موضوعية ومترابطة، تمثل الرهانات الكبرى للحقل السياسي الذي لم يعد يحكمه اليمين واليسار وانما ثنائية «منطق النجاعة التكتلية والاندماجية» و«منطق الانكفاء على الخصوصية والهويات القومية والوطنية».