عالم.. له قلب ويحترم نفسه؟

TT

قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي، الذي دعا إلى ارسال لجنة تقصي الحقائق للنظر في المذابح الاسرائيلية في مخيم جنين، كانت منظومة الدعاية الصهيونية قد بدأت بالتحرك من أقاصي الصين الى اقاصي آلاسكا مروراً طبعاً بالعاصمة الامبراطورية واشنطن.

ومنذ بدء الحديث عن جرائم الحرب والمقابر الجماعية والتصفيات الكيفية التي نفذها الجيش الاسرائيلي في الضفة الغربية، وخصوصا في جنين في اطار عملية «الجدار الواقي» التي لم تنته فصولها، تحركت منظومة الدعاية المذكورة وبأقصى طاقتها على الخلفية المعروفة دائما، حيث تنخرط أوركسترا الجاليات اليهودية ووسائل الاعلام الموجهة صهيونيا في عزف «كونسرتو اللاسامية» بصخب غير مسبوق تقريباً.

ومع تشكيل لجنة تقصي الحقائق. اطلق ارييل شارون حملة كبيرة تهدف الى اجهاض عمل هذه اللجنة، سواء بمنعها من الوصول الى الضفة الغربية وهذا ما بدا واضحا في بداية هذا الاسبوع، أو باغراقها في الضغوط والتشكيك بعد وصولها، حيث من المفترض ان تبدأ اعمالها اليوم الأحد.

ولم تكن اوساط المراقبين في حاجة قط الى التدقيق في تفاصيل الكلمة التي وجهها شارون يوم الثلثاء الماضي الى مؤتمر لجنة العلاقات العامة الاسرائيلية ـ الاميركية (ايباك) المنعقد في واشنطن، لكي تدرك ان المطلوب في النهاية هو افشال اللجنة سواء عبر عرقلة مهماتها أو عبر التقرير النهائي الذي يفترض ان تصدره.

طبعا لقد حاول شارون في كلمته توجيه تقريع غير مباشر، الى الرئيس جورج بوش الذي واصل في الأيام الماضية الحديث عن رغبة اميركا في معرفة حقيقة ما جرى في جنين، «وأن الموقف الاميركي واضح: يجب التوصل الى شفافية كاملة والتحقق من الوقائع. اما بالنسبة الى تركيبة فريق التحقيق وآليات عمله، فإن الأمر متروك لاسرائيل والأمين العام للأمم المتحدة».

وبدا هذا التقريع واضحاً، عندما شبه شارون هجومه العسكري على الضفة الغربية بالحرب الاميركية على الارهاب، وعندما برر بالتالي قتل المدنيين الفلسطينيين بقوله: «إن اميركا تحارب الارهاب في افغانستان، وفي بعض الاحيان يكون المدنيون في مرمى النيران، بينما نحارب نحن الارهاب على اعتاب منازلنا. ونحن نملك الحق والالتزام الاخلاقي في الدفاع عن انفسنا!».

ومنذ صدور قرار مجلس الأمن رقم 1405 الذي نص على تشكيل لجنة تقصي الحقائق، بدأت اسرائيل خطة مبرمجة لافشال عملها، حيث يمكن تسجيل النقاط الآتية:

أولاً: فور إعلان الامين العام للامم المتحدة كوفي انان تشكيل اللجنة برئاسة الرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتيساري وعضوية المفوضة السامية السابقة للامم المتحدة للاجئين ساداكو أوغاتا، والرئيس السابق للجنة الدولية للصليب الأحمر كورنيلو سوماروغا، سارعت اسرائيل الى الاعتراض ولو من زاوية شائنة، عندما قال شمعون بيريس ان هذه «تشكيلة سياسية جداً، وهي بالطبع مشبعة بالروح المعادية لاسرائيل»! وإذا كان هذا الكلام يشكل هرطقة معيبة في نظر الرأي العام الغربي على الاقل، لأن الشخصيات التي شكلت منها اللجنة ذات تاريخ عريق في الاستقامة والعدالة والنزاهة، فإن الوقاحة الاسرائيلية لم تتوقف عند هذا الحد بل وصلت الى مستوى القول ان العناصر الموضوعية لتكوين لجنة من هذا النوع، تفرض ان تكون مشكَّلة ليس من اناس لا يملكون نظرة انسانية فحسب، بل من اناس يملكون خبرة فنية في مسائل الميدان العسكري! وعندما اثيرت الضجة احتجاجاً على مثل هذه النظريات، تمسكت اسرائيل بالقول، ان من غير المعقول ان تكون اللجنة المكلفة تقصي الحقائق على غير دراية بطبيعة ما يمكن ان يجري في المواجهات العسكرية، ففي النهاية ليس المهم ان ترى النتائج الميدانية وحدها بل ان تكتشف من هو الذي ساهم في صنع هذه النتائج.

وقد أوضحت أوساط الجيش الاسرائيلي، ان من غير المعقول ان تقبل اسرائيل بلجنة لا تضم في صفوفها عسكريين يملكون الخبرة الكافية لتقدير ما جرى، وهكذا سحبت حكومة شارون يوم الثلثاء موافقتها على مجيء اللجنة، وطالبت باجراء مشاورات مع كوفي انان لتعديل التشكيلة وفق «الاسس الفنية» اي الميدانية ويا للسخرية.

ثانياً: طالبت اسرائيل بتوسيع عمل اللجنة ليتجاوز جنين الى العمليات الفلسطينية، حيث تم التركيز على عمليتي «ملهى الدلافين» التي اسفرت عن سقوط 22 قتيلا اسرائيليا وأكثر من 48 جريحاً، و«فندق باراك» التي اسفرت عن سقوط 27 قتيلا وحوالي مائة جريح. وفي هذا السياق قال وزير الدفاع بنيامين بن اليعازر بعد اجتماعه مع خافيير سولانا مساء الاربعاء الماضي ان اسرائيل ستتعاون مع لجنة تقصي الحقائق اذا حققت ايضا في اعمال الفلسطينيين: «لقد ارسلوا الينا الشروط الميدانية للجنة فادركنا الاتجاه الذي ستأخذه واذا اردت ان أصف هذا الاتجاه بطريقة لطيفة فانني اقول، انهم يريدون الايقاع باسرائيل بحيث يمكن تقديمها الى المحاكمة».

ثالثاً: وسع الاسرائيليون حملتهم القاسية لتتجاوز الامم المتحدة وكوفي انان الى الدول الغربية والاسرة الدولية ايضا، وقد وصل الامر الى حد قول شارون لمؤتمر «ايباك» ان «هناك نوعا من التلاقي العالمي بين الارهاب واللاسامية»، وانه في ظل تزايد الهجمات على المعابد والمقابر اليهودية في مختلف انحاء اوروبا، فقد «بدأنا نحس بوجود فرية دم خاصة بمذبحة اسرائيلية في مخيم جنين».

ولقد بدا واضحا ان شارون حاول توجيه ضربة قاضية سلفا الى اللجنة واعمالها، عندما قال ان حملتها قد تشكل «فرية دم» على اسرائيل، فالحديث عن «فرية الدم» وسط اثارة موضوع اللاسامية على نطاق واسع، انما يشكل محاولات لترهيب اللجنة وافشال عملها سلفاً.

وها هو ايضا الرئيس الاسرائيلي موشي كاتساف يتهم الاسرة الدولية باعتبار مقاربة مزدوجة للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ويطالب بان تحقق المنظمة الدولية من دون «احكام مسبقة» وان تكف عن «سياسة الكيل بمكيالين» (...) «وانني لا افهم لماذا ظلت الاسرة الدولية صامتة طول عام ونصف العام أمام المجازر العنيفة التي ارتكبت ضد الشعب اليهودي!!» وفي الواقع كانت عملية استعمال سلاح اللاسامية لترهيب الذين يدينون مجزرة جنين، قد بدت واضحة تماما في الحملة الاسرائيلية المسعورة التي تعرض لها مبعوث كوفي انان الى الشرق الاوسط الديبلوماسي النرويجي تيري رود لارسن، الذي اتُّهم بالانحياز لمجرد انه قال وهو يخرج من مخيم جنين: «هذه فظاعة تفوق التصور... لقد رأيت اناسا يحفرون بايديهم المجردة وينتشلون جثثا متحللة من تحت الانقاض».

ولم يتوان الياكيم روبنشاتين المدعي العام الاسرائيلي عن التلويح بان من الممكن الرد على لارسن باعتباره شخصا غير مرغوب فيه في وقت لوحت فيه اوساط حكومية اسرائيلية بضرورة اتهامه بانه لا سامي، مع انه لعب كما هو معروف دورا اساسيا في ابرام اتفاق اوسلو، وان زوجته هي سفيرة النرويج في تل ابيب.

في اي حال، لا ندري ما اذا كان يمكن للجنة تقصي الحقائق ان تأخذ درسا بليغاً من لارسن، الذي رد بحزم وثبات على الموقف الاسرائيلي الذي حاول ان يرهبه، عندما قال في بيروت يوم الثلثاء الماضي: «انني اتمسك بموقفي واصرّ على ما قلته، فلقد شاهدت بالفعل فظاعة تفوق التصور في جنين».

وعندما قيل ان اسرائيل تصعد الحملة ضده رد قائلاً: «احاول ان اتصرف كرجل يحترم نفسه... فعلى اساس ما رأيته وما شممته في جنين أقول ان ذلك كان فظيعاً ومروعاً، وان اي شخص محترم واي انسان له قلب سيتصرف بالطريقة عينها ويستخدم الكلمات نفسها».

بالتأكيد لقد قرأ كوفي انان هذه الكلمات لكن ليس من المعروف ما اذا كان قد جعل منها وصية صريحة وواضحة الى لجنة تقصي الحقائق التي يرسلها الى جنين. وبالتأكيد يعرف انان، كيف يمكن لاسرائيل واميركا اجهاض اي لجنة واي تحقيق في المجازر التي تدين الدولة اليهودية، ربما لانه شخصيا وصل الى الامانة العامة للامم المتحدة على حساب سلفه بطرس غالي، الذي عوقب كما هو معروف وباصرار اميركي واضح، لانه وافق على نشر نتائج التقرير الباهت، الذي اجرته الامم المتحدة حول «مجزرة قانا».

ولا بد ان الجميع يتذكرون كيف ذُبح اللبنانيون الابرياء بقذائف النابالم الاسرائيلية، وهم في حضن الامم المتحدة في قانا، ومع هذا حفرت واشنطن وتل ابيب مقبرة عميقة في الذاكرة الدولية لهذه المجزرة.

واذا كانت أوركسترا «اللاسامية» تعزف الآن بأقصى ما استطاعت لتعمية وجدان العالم، حيث يفترض ألا يُفسح إرث الاثم النازي المجال لأكثر من ضحية واحدة وهي اليهودي، الذي يجب ان يبقى «ضحية» ولو لعب دور الجلاد النازي الجديد، فان الامم المتحدة والاسرة الدولية ستحتاجان الى درس لارسن، لكي نكون في عالم له قلب ويحترم نفسه.