الرأي العام الأميركي.. تحول إيجابي مطلوب تفعيله

TT

بدأ الرأي العام في الولايات المتحدة يتحول، فبعض أعضاء الكونغرس توصلوا الى فهم اوضح لحقائق الشرق الأوسط، غير ان الآيديولوجيين المتطرفين، بسبب الخشية من الضغوط السياسية يواصلون التأرجح في الكابيتول هيل.

وتظهر الاستطلاعات الاخيرة حركة حقيقية في الرأي العام. فما زال الرأي العام يتمتع بتعاطف اكبر مع الاسرائيليين، وبحدود كبيرة، ذلك ان خمسة عقود من القولبة السلبية والتغطية الاخبارية المنحازة صاغت المواقف تجاه شعوب الشرق الأوسط. غير ان الرأي العام ينعطف ضد السياسة الاسرائيلية، ويريد الأميركيون، على نحو متزايد، ان تكون حكومتهم متوازنة وعادلة في موقفها من الطرفين.

ومن اللافت للنظر ان الاستطلاعات تشير الى انقسام واسع في مواقف الحزبين الرئيسيين. ويؤكد استطلاع قامت به مؤسسة زغبي انترناشيونال، مؤخرا، هذا الامر. وعندما سئلوا «هل يتعين على اسرائيل انهاء احتلالها للضفة الغربية وغزة»، اجاب الأميركيون بـ«نعم» بهامش بلغ 58 في المائة مقابل 29 في المائة. غير ان هذه النسبة بلغت بين الديمقراطيين 69 في المائة مقابل 21 في المائة، بينما بلغت بين الجمهوريين 48 في المائة مقابل 39 في المائة، مما يظهر هوة في النسبة تقترب من 40 في المائة.

ويعود السبب، بالطبع، الى مواقف الجناح اليميني المتدين الذي لا يدعم انسحابا اسرائيليا الا بنسبة 49 في المائة مقابل 38 في المائة من المعارضين. وهذه المجموعة تشكل نسبة كبيرة من القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري. ومن ناحية اخرى تدعم جماعتان رئيسيتان من القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي هما الأميركيون الأفارقة، والأميركيون الاسبان انهاء احتلال اسرائيل بنسبة 68 في المائة مقابل 24 في المائة.

وهناك ايضا فجوة كبيرة في الاعمار انعكست في هذا الاستطلاع. فالأميركيون الذين تقل اعمارهم عن الثلاثين عاما يدعمون انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية بنسبة 70 في المائة مقابل 22 في المائة. اما اولئك الذين تزيد اعمارهم على الخمسين فلا يدعمون، من ناحية اخرى، هذا الانسحاب الا بنسبة 55 في المائة مقابل 29 في المائة.

ويظهر هذا الاستطلاع نفسه ان 71 في المائة من الرأي العام الأميركي يدعم، الآن، اقامة دولة فلسطينية، بمستوى الفجوة القائمة بين الحزبين وبين العمرين.

وكان هذا واضحا في التجمعين الحاشدين المتنافسين اللذين جريا في واشنطن قبل اسبوعين. فالتجمع المؤيد لاسرائيل قدر بما يتراوح بين 25 الى 40 الف شخص. وكان تجمعا للبيض، ومعظمه من اليهود او المسيحيين المحافظين. اما المسيرة الأكبر المؤيدة للفلسطينيين فقد قدر عدد المشاركين فيها بـ75 الف شخص، وضمت اعدادا كبيرة من العرب والمسلمين، ونسبة كبيرة من الطلاب والأقليات. ان نشوء المسيرة المؤيدة للفلسطينيين كان، بحد ذاته، تطورا لافتا للنظر، فقد بدأ كتجمع ليبرالي ـ يساري مضاد للعولمة بدون عنصر اساسي مرتبط بالشرق الأوسط. وتطور التجمع الى فعالية مؤيدة للفلسطينيين خلال الشهر الماضي في رد فعل على التطورات المرعبة في الشرق الأوسط. ويعود الفضل في ذلك الى حد كبير الى النشطاء المؤيدين للفلسطينيين وعدد من الجماعات الاسلامية الأميركية ممن عملوا خلال اسابيع في سبيل التهيئة والاعداد لهذا الحدث.

وقد انتهت المسيرات، الآن، واختتم اللوبي المؤيد لاسرائيل مؤتمره السنوي، فان الاوضاع السياسية في واشنطن عادت الى طبيعتها. وبينما تدعو اصوات قليلة اخرى الى اتباع سياسة اكثر توازنا، فان المشهد، في الجزء الاعظم، مشهد سريالي. فالكثير من اعضاء الكونغرس يعيشون، كما يبدو، في واقع بديل صاغته السياسة وليس الحقائق كما هي في الواقع. والا كيف يمكن للمرء ان يفسر بعض التصريحات الغريبة التي ادلى بها بعض المسؤولين المنتخبين الاسبوع الماضي، او بعض الرسائل ومشاريع القوانين الغريبة التي جرى تداولها في الكابيتول هيل.

اليكم بعض الامثلة:

ـ رغم التعبير عن شيء من القلق الأولي من جانب وزارة الخارجية، يضغط عدد قليل من اعضاء الكونغرس بخطط لاضافة 200 مليون دولار الى صفقة المساعدة المقدمة لاسرائيل لمساعدتها على «الحرب ضد الارهاب».

ـ انضم زعيم الجمهوريين في الكونغرس توم ديلي الى الديمقراطي توم لانتوس لتبني قرار «تضامنا مع اسرائيل في حربها ضد الارهاب». وهذا القرار يتميز بالنزعة الاستفزازية المثيرة وأحادية الجانب الصارخة. وقد عارضت وزارة الخارجية التي تخشى ان يؤدي اقراره الى الحاق الضرر بالدبلوماسية الأميركية، ومع ذلك يبدو ان اعضاء الكونغرس المتشددين عازمون على المضي فيه.

ـ ثم ان هناك ما يسمى بـ«قرار مسؤولية عرفات» و«قرار مسؤولية سورية». ويسعى القرار المضاد للفلسطينيين الى اعادة تشريع الحظر الأميركي على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية بغلق مكاتبهما في الولايات المتحدة، ورفض منح تأشيرات الدخول لممثليهما. اما مشروع القرار المضاد لسورية فيدعو، في حالة اقراره، الى تجميد الاصول السورية في الولايات المتحدة، وفرض عقوبات جديدة صارمة على ذلك البلد.

ـ اما الرسائل التي نظمتها مجموعات من اعضاء الكونغرس ووجهتها الى الرئيس، فليست بمستوى خطورة مشاريع القوانين لكنها مقلقة على نحو مماثل. وبسبب انها ليست بحاجة الى تصويت او خلق سياسة جديدة، فان اعضاء الكونغرس يمكن ان يكونوا على درجة كبيرة من التطرف واللامسؤولية في صياغة هذه الرسائل. وخلال الشهر الماضي كان هناك عدد كبير من هذه الرسائل الخطية الرسمية التي تدين كل شيء من رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات الى سفير المملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة الأمير بندر بن سلطان.

وعلى الرغم من كل هذا النشاط المتطرف، هناك، حتى في الكونغرس، دلائل على تحرك ايجابي. فبعض اعضاء الكونغرس العميقي التفكير يشعرون بقلق شديد من دورة العنف في الشرق الأسط، والدمار الذي تلحقه بالمنطقة، وبعلاقات الولايات المتحدة في العالم العربي. ويشعر كثيرون بالانزعاج الشديد من العنف المفرط لحكومة شارون ضد الشعب الفلسطيني. وقد وجه احد اعضاء الكونغرس رسالة الى السفير الاسرائيلي يدين فيها بشدة «حقيقة ان رئيس الوزراء شارون يواصل هذه الموجة المروعة من العنف». ووقع العشرات رسائل اخرى تدعم مهمة وزير الخارجية كولن باول لتحقيق السلام، وتحث على ان تكون متوازنة ومتواصلة. ويواصل قرار الكونغرس المصادقة على قراري الأمم المتحدة 1397 و1402 تعبئة الدعم. (ملاحظة: في اللحظة الاخيرة اذعن زعماء الكونغرس للمعتدلين والادارة ووافقوا على سحب قرار التضامن مع اسرائيل من لائحة الكونغرس).

وستكون الاسابيع القليلة المقبلة مثيرة للانتباه، ذلك ان الاصوات المعتدلة في الكونغرس، مدعومة من قبل وزارة الخارجية، تعارض زملاءها الاكثر تشددا. وسيكون الصراع، من ناحية، بين الاصوات التي تتميز بعمق التفكير والاتزان، والتي ترى مخاطر الاتجاه الحالي للأحداث في الشرق الأوسط، وبين اولئك الاعضاء في الكونغرس الذين تصاغ وجهات نظرهم على يد الآيديولوجيين المتطرفين، او ببساطة، الخشية من الضغط السياسي من اللوبيات المنظمة.

والمهمة المطروحة امامنا، في الوقت الحالي، تتمثل في ترجمة التحول في الرأي العام، وحقائق نزاع الشرق الأوسط الى قوة سياسية جديدة يمكن ان تهز الكونغرس وتبعده عن عالمه السريالي. وقد اتفقت المنظمات الأميركية ـ العربية الرئيسية على استضافة فعالية تعبئة وطنية طارئة تعقد في واشنطن اواسط الشهر المقبل.

وهناك ايضا عمل تنظيمي كبير يجري في مختلف انحاء الولايات المتحدة في اطار تحدي اعضاء معينين في الكونغرس.

* رئيس المعهد العربي الاميركي في واشنطن [email protected]