الفايكنغ رمز شعب لا يخجل من ماضيه

TT

من من القراء يشاركني سمة تكوين رأي عن الشعوب الاخرى من خلال فنونه وادابه؟

قد يفعل كثيرون، لكنني، وعن تجربة، بتّ اشككك بخطأ تكوين هذا الانطباع. لقد بقيت زمنا استحضر صورة البلدان الاسكندنافية من خلال سينماها التي تتسم بالايقاع البطيء الهادئ. والسويد تحديدا، كانت بالنسبة لي هي ما تعكسه افلام المخرج المتميز انغمار بيرغمان. وتحددت صورة السويديين في ذهني بكونهم شعوبا تعاني من الوحدة، في مجتمع يتسم بالوحشة والبرود العاطفي. اما تاريخهم فهو تاريخ (الفايكنغ)، البحارة القساة الذين كانوا يتعيشون في القرون الوسطى على التجارة احيانا، وعلى غزو البلدان المجاورة في الاغلب.

هذا ما حملته معي الى مدينة مالمو في جنوب السويد بدعوة من جمعية جلجامش العربية التي يرأسها الشاعر العراقي جليل حيدر، وكانت المناسبة يوم المرأة العالمي. سافرت بحقيبة صغيرة وانطباع غير لطيف عن برودة الجو وبرودة البشر. كانت الدعوة معنية بتنظيم ندوات تناقش صورة المرأة في الادب. لكن الحديث عن صورة المرأة في الواقع السويدي هو اكثر حرارة من طقس نهاية شتاء الشمال الاوروبي، انه بلد يحول هذا اليوم الى عيد يلقي بظلاله على الشهر كله، فأينما توجهت، في المطاعم، وفي الطرقات، هناك ورود معروضة خصوصا بهذه المناسبة، وما على الرجال سوى ان يهدونها الى نسائهم، وقلما كنت تجد امرأة يومها لا تحمل وردة بيدها. احتفالات في كل مكان، اضافة الى برامج الاذاعة والتلفزيون، وكذلك هناك بعض الانشطة الخاصة بالاطفال، تنبههم الى اهمية دور المرأة في الحياة والمجتمع.

السويد كانت تعيش يوم 8 مارس (اذار) بصورة يصعب وصفها بالكلمات، والكلام عنها سيكون اكثر حيادية بعد مرور اسابيع على المناسبة، كي تتخلص الانطباعات من وهج المشاعر. فاضافة الى زهوة اليوم نفسه، كانت البلاد تحت تأثير امرأتين اخريين تنتميان الى جيلين بعيدين واصول ثقافية مختلفة. الاولى هي انغريد لينغرين الكاتبة الشهيرة التي توفيت قبل المناسبة بايام عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، واجلت جنازتها حتى يوم المرأة. وقد خرج الالاف بمن فيهم افراد من العائلة المالكة السويدية، لتشييعها عرفانا بجميلها عليهم، فقد تربى الشعب السويدي على قصصها التي طافت شهرتها البلاد وترجمت الى غالبية لغات العالم. انها بهذا المعنى جدّة لعدة اجيال من الشعب السويدي، بحكم القصص التي كتبتها للاطفال ورافقتهم في اوقات فراغهم، او قبل ان يذهبوا في غفوة النوم. اما المرأة الثانية التي خيّم ظلها على الثامن من مارس، فهي الشابة الكردية الاصل السويدية المنشأ (فاطيما) التي قتلها والدها اعتراضا على قرارها بالارتباط بشاب سويدي تحبه. كانت سيرتها المأساة بنهايتها المؤلمة حاضرة بقوة، في التلفزيون وفي الصحف، وفي التجمعات التي نظمت لاحياء ذكراها، حيث يذكر شهود حضروا تلك الاجتماعات ان البكاء والنحيب كان يسمع في ارجاء القاعات من اصدقاء الفتاة بل ومن اشخاص لا يعرفونها، حزنا على شابة عرفت بحيويتها وشخصيتها الجذابة الذكية، مما حبب فيها كل من كان يعرفها، في الجامعة وفي العمل. انتقلت عدوى الحديث عن هذه الفتاة الى الندوة التي نظمت في جامعة مدينة لوند القريبة من مالمو، فاخرجت تلك الندوة صورة المرأة العربية او المسلمة، من مضمون الكتابات والاعمال الادبية الى ارض الواقع، أيهما سيكون اقوى واشد تأثيرا على الحضور؟. وكان علينا ان نقنع الحضور ان واقعنا العربي الاسلامي ليس بهذه القتامة وهذا التعميم، فنحن امامهم نموذج معاكس للصورة النمطية، نكتب ونعبر عن ارائنا بحرّية، ولنا اسر ساندتنا في مسيرتنا، بمن فيهم اباؤنا. والسويديون قطعوا شوطا كبيرا في اعطاء دور فاعل للمرأة داخل المجتمع، ليس اعلاميا واحتفاليا فقط، فالمرأة الان ممثلة في العديد من المناصب القيادية الحكومية، وهي تشكل نصف وزراء الحكومة، كما ان نصف البرلمان ايضا من النساء. الا ان هذه الانجازات لم تتم لان المجتمع كامل الاوصاف، او لان السويد والمجتمعات الاسكندنافية كانت (يوتوبيا خالصة)، ومدنا فاضلة لا يعيبها خطأ بشري. المجتمع السويدي لم يكن ليصل الى ما هو عليه الان، من دون حركة سياسية اجتماعية طالبت بالعديد من الاصلاحات في المجتمع. لقد كان لوصول الحزب الديمقراطي الاجتماعي عام 1907 اكبر الاثر في ادخال الاصلاحات الديمقراطية الى السويد، وبعد ان كان حق الانتخاب والترشيح للبرلمان محصورا بمجموعة محددة من (الرجال) تملك القوة في المجتمع، توسعت لتشمل قطاعات اكبر. وبتحالف هذا الحزب مع حزب الاحرار، تمكنت هذه القوى بعد فوزها بانتخابات 1921 من تنفيذ سياسات اصلاحية اوسع عدل فيها الدستور ليصبح من حق كل شخص سويدي المشاركة في الانتخابات العامة، رجلا كان ام امرأة.

قبل تلك الاصلاحات لم يكن وضع النساء في القرن التاسع عشر وحتى العقود الاولى من القرن العشرين، ليختلف كثيرا عما هو في العالم، فمكانهن الذي يفضله المجتمع هو البيت، ومهنتهن الوحيدة المستحبة لهن، هي انجاب الاطفال والطبخ والتنظيف. وقد تحدثت الشاعرة السويدية المعروفة كارين لينتز امامنا عن تجربة المرأة التي همشت زمنا طويلا، خصوصا في مجال الابداع، فاضطرت كثيرات الى الكتابة بأسماء رجالية مستعارة، لان الناشرين، اصحاب صحف ودور نشر، لم يكونوا يتحمسون للكتابات النسائية، ولا حتى النقاد ساندوا حضورها الابداعي، وكان بعضهم سرعان ما يغير رأيه في عمل ادبي عندما يكتشف ان كاتبته امرأة. لقد كان للحركة الطلابية التي انطلقت من فرنسا في عام 1969 انعكاساتها الايجابية على المجتمعات الاوروبية ككل. وفي عام 1974 نجح البرلمان المنتخب في تقديم دستور جديد يعاصر التغييرات الكبيرة التي حصلت في العالم، اذ لم يعد دستور عام 1809 صالحا كمرجع قانوني وسياسي مناسبا للبلاد. ووفقا لهذا الدستور قدمت حتى العائلة المالكة اصلاحات على الاعراف والتقاليد التي تحكم علاقتها بالشعب، وباتت اكثر انفتاحا عليهم واقل تدخلا في شؤون البلاد. وما يدهش الزائر انه رغم كل التغييرات الديمقراطية التي حصلت، فان صورة رجل الفايكنغ بشعره المنكوش ولحيته غير المهذبة منتشرة في كل مكان كشعار للسويد، واذا فكرت ان تحصل على هدايا تذكارية قبل عودتك، فستجد اضافة لهذا الرجل البدائي نماذج لسفن كانت تستخدم في التجارة او الغزو. ولوهلة قد يتساءل المرء: لماذا يحتفي شعب يملك كل هذا التحضر واللطف في تعامله مع نفسه ومع الاخرين، بأصوله البعيدة عن كل مدنية وحضارة؟.

لقد حققت الشعوب الاسكندنافية، والسويديون من بينهم، انجازات ثقافية حضارية كبيرة، نقلتها من شعوب تعيش على الاغارة والغزو قبل الف سنة، الى شعوب متحضرة، نظامها ملكي برلماني ديمقراطي. شعوب كانت غالبية افرادها قبل قرنين تعمل في الزراعة، الى شعوب صناعية غنية حققت الرفاهية الاجتماعية لمواطنيها، مستوحية النظريات الاشتراكية الديمقراطية. واللافت للنظر ان كل تلك الانجازات تمت من دون هزات راديكالية، كما حدث في الدولة القريبة منها، واعني بها روسيا. فتقدم المجتمع السويدي تمّ بنقلة سلمية، لا صدامات عنيفة، ولا ثورات اريقت فيها الدماء ليبقى رجل الفايكنغ وسفينته الغازية رمزا لهذه الشعوب التي لا تخجل من ماضيها، تواجهه بشجاعة وتستحضره لكي تذكر نفسها وتذكر الاخرين بالنقلة النوعية التي حققتها لنفسها بالديمقراطية، وهو امر لعمري يصعب على كثير من الشعوب تحقيقه. وقبل ان انهي مقالتي اعيد ما ابتدأت به من تساؤل: هل لنا ان نعتمد على الفنون والاداب كمصدر معرفي وحيد عن الشعوب؟ ابدا، وزيارة مدينة مالمو الوديعة واهل السويد الدافئين جعلتني اعيد النظر بكل تصوراتي السابقة، فالواقع هو سيد الموقف تردفه المصادر الاخرى، وربما انه بات عليّ ان اعيد مشاهدة افلام بيرغمان ورفاقه الاسكندنافيين فلعل رهافة الفنان هي التي تضخم المعاناة الانسانية لحفظها في اقصى انفعالاتها.

[email protected]