لو بن: تعدّدت التفاسير... لكن الحقيقة واحدة

TT

سأجازف.. فأقول انني استبعد ان يفوز جان ماري لو بن على جاك شيراك في الدورة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وبخاصة ان معظم استطلاعات الرأي تمنح شيراك اغلبية ساحقة ماحقة ستزكيها اصوات اليسار المقهور.

ايضاً سأجازف فأقول ان حصول لو بن على نسبة تفوق الـ17 % من اصوات الفرنسيين تشكل في حد ذاتها ظاهرة اوسع من حدود فرنسا، رغم تعدد التفاسير والاستنتاجات، ورغم شبه الإجماع على انه سيخسر في الدورة الثانية لأنه خلال الدورة الأولى احتكر تقريباً اصوات اليمين العنصري باستثناء حفنة حصل عليها حليفه السابق والمنقلب عليه لاحقاً برونو ميغريه، ولأن غريمه في «معركة مايو/ايار» الحاسمة ...يميني ديغولي لا غبار على هويته السياسية.

لقد حصل لو بن على 4.6 مليون صوت. وهذا يعني صراحة، مهما حاول احدنا ان يبدو مهذباً، وجود 4.6 مليون فرنسي لا يأنف من العنصرية بل هو مستعد للتعايش مع حكم عنصري.

اسباب هذا «الاستعداد» عديدة...

منها مثلاً البطالة التي علّقت على «شماعة» الجاليات المهاجرة.

ومنها الجريمة، الناجمة في كثير من الحالات عن البطالة ـ وفق المثل العربي السائر «البطالة أم الرذائل» ـ وقد نجح العنصريون في فرنسا وغير فرنسا بربط الجريمة والتحايل على الدولة .. في أذهان البعض بالمهاجرين.

ومنها التخوف او العداء الديني مع كل ما يندرج من إشارات تحت خطوطه العريضة من كراهية الزي والعادات الاجتماعية وروائح الطعام ويافطات المتاجر باللغات الاجنبية ...إلخ.

ومنها استنهاض النزعة الانتقامية والرد على تحرّر المستعمرات السابقة ولا سيما في شمال افريقيا وافريقيا السمراء والهند الصينية بـ«تحرير» مضاد. وحسب هذا المنطق إذا كان الجزائريون مثلاً رفضوا بقاء المستعمرين الفرنسيين المعروفين بـ«ذوي الاقدام السوداء» Pieds Noirs في الجزائر وسكيكدة وعنابة ...فكيف يقبل الفرنسي ابن الفرنسي ببقاء الجزائري ـ حتى إذا كان من ابناء «الحرْكيين» المتعاونين مع المستعمر ـ في احياء مانت لا جولي وكاربنتراس ومرسيليا؟

لا شك في ان لظاهرة لو بن خاصيات فرنسية بحتة لها جذورها في طبع الانسان الفرنسي وثقافته السياسية المتحررة والعاطفية، النازعة في احيان عديدة الى الثورية والفوضوية والمثالية والمزاجية والتمرد والاستقلالية ...وهذا الطبع ـ من دون تبني قوالب جامدة ـ مخالف جداً لطبع الانسان البريطاني او الانسان الالماني وثقافتهما السياسية. ففي بريطانيا منذ «الماغنا كارتا» عام 1215، ومن بعدها إعادة الملكية عام 1660في اعقاب فترة حكم اوليفر كرومويل، وما تلاها من إصلاحات... تغلب منطق التعديل التدرجي Evolution على منطق التغيير الثوري Revolution. وفي المانيا حكمت الهواجس الامبراطورية التوحيدية من بسمارك الى هتلر انطلاقاً من خلفية التشتت والتنوع العرقي واللغوي والمذهبي في وسط اوروبا الجرمانية، ثم الهزيمتان الاليمتان في حربين عالميتين مدمرتين... الثقافة السياسية الالمانية وتوجهاتها في الداخل والخارج..

لهذا أقول ان في فرنسا ظروفاً معينة سمحت ببروز ظاهرة لو بن بالحدة والفجاجة اللتين نرى. وهذه الظروف لا تؤكد بالضرورة او تنفي بالضرورة ان الفرنسيين اكثر عنصرية او اقل عنصرية من جيرانهم. لكن هناك ايضاً أموراً موضوعية على الباحث ايلاؤها ما تستحقه من اهمية في هذا الصدد، خارج الحيّز الفرنسي. بدايةً، تعريفا اليمين واليسار في موضوع لو بن تعريفان مبهمان. فكلمة «اليمين» في هذا الاطار بالذات أضحت كلمة فضفاضة فقدت او كادت تفقد المعنى المقصود منها. وحتى في الولايات المتحدة حيث الغت «الثقافة السياسية» اي وجود حقيقي لـ«الايديولوجية» نرى الآن توصيفات اكثر دقة وتفصيلاً لليمين واليسار. فهنا يمين اقتصادي يؤمن باقتصاد السوق المفتوحة وحرية التجارة وإسقاط الحواجز الحمائية والضمانات الاجتماعية ... لكنه على الصعيد الاجتماعي «ليبرالي» يحترم الحريات الاجتماعية والدينية والمسلكية الخاصة فيرفض التعليم الديني ويرفض التضييق على حق الإجهاض وإذا تحفظ على الهجرة فلأسباب اقتصادية بحتة. وفي المقابل هناك يمين ديني او اجتماعي «اصولي» متزمّت دينياً وثقافياً واجتماعياً يصرّ على الطقوس الكنسية في المدارس، ويبارك اي عنف يمارس ضد الإجهاض، ويقف ضد المهاجرين لأسباب ثقافية، لكنه لا يمانع في وجود الضمانات الاجتماعية والحماية وتقييد حرية التجارة.

ان انهيار الاتحاد السوفياتي وما ولّده هذا الانهيار من تداعيات وإفرازات فكرية واستراتيجية واقتصادية عنصر بالغ التأثير في الفرز السياسي الحاصل في العالم اليوم. و«العولمة» التي يثرثر الكل بها من دون أن يدركوا كل ابعادها ما زالت «صورة» ناقصة تتجمع اجزاؤها بصورة تبدو مفزعة لمئات الملايين من البشر الخائفين من المجهول. وهذه «العولمة» المستعصية على تعريف دقيق قد تكون «عولمة من فوق» تغزو معها ماكدونالدز وفورد وكوكا كولا ومايكروسوفت كل دول العالم فتسقط الحواجز وتدجّن الناس. وقد تكون ايضاً «عولمة من تحت» اي زحف الفقراء والمحرومين عبر الحواجز السياسية والطبيعية الفاصلة بينهم وبين الاغنياء، وهي تلك التي وصفها وزير الخارجية الفرنسي الاسبق كلود شيسون في سياق الهجرة الشمال افريقية الى فرنسا بكلامه عن «شعوب القوارب المتوسطيين»..

نعم الغزو الثقافي والاقتصادي وجه لـ«العولمة»... وكذلك الهجرة التي هي غزو الفقراء والمحرومين والطموحين. وثمة مئات الملايين من البشر، في الجانبين الغني والفقير، يريدون ان يوقفوا هذا المد الجارف المخيف بأي شكل من الاشكال. وهذا ما عبّر عنه جيمس غولدسميث، الملياردير البريطاني ـ الفرنسي الراحل عندما قال في شرحه اهداف تأسيسه حزب الاستفتاء البريطاني المناوئ للوحدة الاوروبية، ان «الحصن الوحيد الواقف الآن بوجه مد «العولمة» هو «الدولة القومية» وعلينا الدفاع عن هذا الحصن»..

حتماً، «القوميون» أنواع ودرجات. وغلاة القوميين قد يكونون في قاموس ما «نازيين» او «فاشيين» او «شوفينيين» او «عنصريين»، وقد يكونون في قاموس آخر «وطنيين» او «مناضلين في سبيل العزة والاستقلال»... او كما هي حال رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون «رجال سلام»!! هنا من المفيد تذكّر حقيقة ساطعة هي ان اليمين العنصري المتطرف لم يصل ابداً الى السلطة في اي دولة في العالم من دون دعم من اليمين «المعتدل» او «المحترم». فاليمين الالماني المسيحي التقليدي دعم هتلر في البداية أملاً بضرب اليسار، وخلف عودة الفاشيين الجدد الى الحكم في ايطاليا بزعامة جيانفرانكو فيني يقف سيلفيو برلوسكوني وحلفاؤه من اليمين التقليدي والانفصالي، وخلف جرائم آرييل شارون نرى تواطؤ شيمعون بيريس وفؤاد بن اليعيزر ورفاقهما من حزب العمل.

في اميركا ايضاً في اواخر سنوات «الحرب الباردة» توجه ملايين الناخبين من الفئات العمالية، ولا سيما العمالية غير المتخصصة في الصناعات التقليدية الصدئة، الى معسكر اليمين «الريغاني»، وبفضل هذا التحوّل النابع من اسباب اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية تحوّل رونالد ريغان من قيادي هامشي متطرف داخل الحزب الجمهوري خلال الستينات... الى «رجل المرحلة» وقائد العالم في عقد الثمانينات. هذا التحوّل في الغرب بعد انتهاء «الحرب الباردة» استولد ظواهر مثل لو بن، وقد يستولد غيره ممن هم على شاكلته. وبالتالي يفرض الواجب الاخلاقي على كل شرفاء العالم ومثقفيه الربط الوثيق بين كل ظواهر التعصب والعداء والتحامل، وبالذات تجنب المهادنة والانتقائية عند التصدي للعنصريين والعنصرية بكل أشكالها.