الفكر والتجربة

TT

ان كنت مفكرا ولم تضع افكارك على محك التجربة تظل الافكار مجرد وجهة نظر دون أي دليل يثبت قابليتها للتطبيق، وان طبقتها تنزع من خصومك متعة اتهامك بالطوباوية، لكن قل لي بالله عليك يا اخا التفكير والتدبير كم مفكرا في العالم اتيحت له الفرصة ليجرب افكاره؟

تعرف قطعا انهم قلة، واعرف انهم يكادون ينعدمون من كثرة ما شردوا وسجنوا واعدموا لكن من حسن الحظ، فإن عندنا في تاريخ الفكر العربي اثنان ومن فترتين مختلفتين الأول معلم الجاحظ، ومستشار المأمون، ووزير ثقافته، وهذا سنفرد له يوما مستقلا في خميس التراث ذات يوم لخطورة دوره وسيرته، والثاني خير الدين التونسي الضابط والوزير والصدر الأعظم.

وقد كان خير الدين التونسي مفكرا سياسيا من طراز رفيع يشهد له بذلك كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» ولهذا الكتاب مقدمة على غرار مقدمة ابن خلدون وضع فيها خلاصة تجربته في الحكم وليس في التأمل والمقارنة، وبعد صدور ذلك الكتاب عام 1867 ووصوله الى السلطان عبد الحميد الثاني قام السلطان بتعيين خير الدين التونسي بمنصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ليطبق الافكار الحكيمة الواردة في كتابه ومقدمته.

ولأن النظرية غير التطبيق لم يعمر المفكر التونسي في ذلك المنصب اكثر من عدة اشهر قام خلالها بالتدخل لخلع الخديوي اسماعيل في مصر وخطط لمجموعة من الاصلاحات الدستورية فانفجر في وجهه اللغم الدائم الذي ينهي تجارب من لا يلاحظون اقتران نهب الممالك وثرواتها بحتمية غياب الدساتير والقوانين، فحين يكون هناك قانون يلزم الكبير قبل الصغير تهبط حظوظ اللصوصية السياسية الى حدودها الدنيا، وحين يغيب ذلك القانون تهبط حظوظ الحريات والعدالة الاجتماعية.

وتعبير «أول القصيدة كفر» ينطبق على مقدمة كتاب التونسي لأنه ما ان يبسمل، ويحوقل، ويتعوذ حتى يطالب بتقييد حرية الحكام والخلفاء في التصرف، وأين من يقبل هذا الكلام عن طيب خاطر، وقبل ان تسيل الدماء الى الركب لتقييد بعض الصلاحيات.

والتونسي الذي يعرف مزالق السلطة ومخاطرها لا ينسب ذلك الرأي لشخصه الكريم انما يريح نفسه وينسبه الى رجل من اوروبا: «وقد كانت وقعت بيني وبين احد أعيان اوروبا مكالمة اسهب فيها بمدح ملكهم وذكر ما له من مزيد المعرفة بأصول السياسة حتى قال انه متقيد بطبعه، وعقله عن سلوك غير منهاج الصواب، فقلت له: كيف تشاحونه في الحرية السياسية وترومون مشاركته في الأمور الملكية والحال انكم تسلمون له من الكمالات ما لا يحتاج معه الى المشاركة فأجابني بقوله: من يضمن لنا بقاءه مستقيما، واستقامة ذريته بعده»؟

والسؤال هام طبعا بل ومفصلي، لذا يسارع خير الدين التونسي، الى اقتراح الحل الذي يريح الممالك والجمهوريات والجماهيريات فيؤكد على لزوم تقييد الحكام بقيود من الشرع والعقل والقوانين التنظيمية الملزمة لتكون لهم مانعا من الاستبداد بالسلطة وخيراتها وتلك القيود بلغته وقلمه «إما شرع سماوي، او سياسة معقولة».

ولأن ذلك المفكر المجرب ثاقب النظر يدرك ان القيود المفروضة على السلطة يجب ان يرافقها ويتزامن معها تخفيف في القيود المفروضة على الحركة الاقتصادية والحراك الاجتماعي، فالناس «ان فقدوا الامان على أموالهم يضطرون لاخفائها فيتعذر تحريكها»، وان فقدوا حرية التحرك والتعبير تموت بسكوتهم فضائل كثيرة.

ورغم مرور 135 سنة على صدور كتاب «أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك» فإن افكاره ما تزال طازجة وقابلة للتطبيق، ولك ان تقول بالعامية انها «عالزيرو» فهي في مكانها لم يلمسها منذ ان حاول صاحبها تطبيقها احد، فدولة الشرق الاستبدادية ـ والمصطلح لبيري اندرسون ـ تعيش على الرقيق والاستبداد وقد تم تحريم تجارة الرقيق دوليا. اما الاستبداد، فما تزال معركته طويلة وما يزال ينتظر من يحرمه او يمنعه بالقوة بشرط ألا يخلق مكانه نمطا جديدا من الاستبداد المقنع والمبرقع بقوانين على مقاس بعض الطبقات والاشخاص.