هل يُعاد رسم خريطة المنطقة من جديد؟

TT

يمكن القول إن خريطة الشرق الأوسط الحالية في مجملها، هي صناعة أنغلو ـ فرنسية، وإنجليزية بشكل رئيس. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى، تقاسم الحلفاء المنتصرون إرث «رجلهم المريض»، وكان من نتيجة ذلك تقسيم النفوذ في منطقة الهلال الخصيب خاصة، بين القوتين الرئيسيتين في التحالف، وعلى أساس هذا التقسيم ظهرت الدول العربية المستقلة في تلك المنطقة فيما بعد، وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين انهار النظام الدولي القديم، وغابت شمس القوة عن بريطانيا وفرنسا. فظهر العراق الحديث مثلاً، نتيجة عملية «تجميع» لألوية عثمانية سابقة (البصرة، وبغداد، والموصل)، كما كما ظهر لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، نتيجة تقسيم سوريا الطبيعية من ناحية، وتجميع ألوية وأقضية ومتصرفيات عثمانية سابقة في كيانات جديدة. المهم، تشكلت الخريطة التي تضم معظم دول الشرق الأوسط الحالية، بجهود أنغلو ـ فرنسية، وكنتيجة للانهيار الفعلي لنظام توازن القوى الذي كان سائداً قبل الحرب الأولى، وانهيار النسق الامبراطوري الذي شكل وحدات النظام الدولي آنذاك. انهارت امبراطورية آل عثمان في الاستانة، وامبراطورية آل هابسبورغ في النمسا والمجر، وامبراطورية آل رومانوف في روسيا، وتحولت الأراضي السابقة لهذه الامبراطوريات إلى دول قومية وشبه قومية، احتلت مكانها في خريطة العالم. وبالنسبة لامبراطورية القياصرة في روسيا، فإن الانهيار الحقيقي لها لم يحدث إلا بعد ذلك بسبعين عاماً ونيف، حيث أنها واصلت الحياة بوجه جديد (الوجه السوفيتي)، وقياصرة من لون مختلف، ولكن الجوهر بقي واحداً. فانهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن إلا حدثاً تأخر عن موعده، ولكن سبعين عاماً ليست شيئاً يذكر في التاريخ على أية حال.

ونحن اليوم نعيش في حالة أشبه ما تكون بالحالة التي سادت في أعقاب الحربين الأولى والثانية معاً: نظام دولي قديم يتهاوى، ونظام دولي جديد يحاول أن يفرض نفسه، ودول قديمة تتفتت، ودول جديدة تظهر إلى الوجود، وصراعات اجتماعية وقومية وعرقية ودينية تظهر إلى السطح بعد أن كانت في طي الكبت والكتمان، وتوتر يسود الفرد والجماعة في العالم كله. فلقد كانت فترة ما بين الحربين فترة عدم استقرار كامل، بل وحتى الفوضى الكاملة في العلاقات بين الدول خارجياً، والعلاقات بين الحاكم والمحكوم داخلياً، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما يجري في عالم اليوم منذ حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي، وحتى أحداث الحادي عشر من ايلول /سبتمبر في مانهاتن وواشنطن. وكانت فترة ما بعد الحرب الثانية، فترة محاولة إعادة الاستقرار إلى هذا العالم، وهو استقرار قائم على توازن الرعب بين القوتين الأعظم اللتين أفرزتهما نتائج الحرب، ومحاولة بناء نظام دولي جديد تُركت فيه الحرب الساخنة للجنود على رقعة الشطرنج، فيما كانت الحرب الباردة هي أقصى ما يُمكن أن يصل إليه التوتر في العلاقة بين البيادق الرائدة على الرقعة. وعلى العموم، فإنه في الأنظمة الدولية، ليس هناك سلام دائم، وإن كنا نتمنى مثل هذا السلام مع المصلحين والفلاسفة وأرباب المبادئ، ولكنه دائماً سلام يقوم على محور من قوة أو عدة قوى عظمى، تحاول أن تكون في حالة توازن معينة، لا يلبث أن ينهار ما أن تنهار معادلته المؤسسة. وبعد كل انهيار لنظام قديم، وبزوغ فجر نظام جديد، فإن إعادة رسم سلم القوى وخريطة العالم تكون عادة من أولويات النظام الدولي الجديد، كمحاولة منه لترتيب الأوضاع، وتحقيق السلام وفقاً لمعادلاته الخاصة، التي تصبح في النهاية معادلات للسلام والاستقرار في العالم كله.

ما يهمنا في هذا الحديث كله هو مصير منطقتنا، أي منطقة الشرق الأوسط. فنتائج الحرب العالمية الأولى ادت إلى تقسيمه إلى مناطق نفوذ، وكيانات ذات استقلال نسبي. ونتائج الحرب العالمية الثانية أدت إلى تحول هذه الكيانات إلى دول مستقلة ذات سيادة. والسؤال هنا هو: إلى أين نتجه في هذا المجال بعد انهيار نظام القطبية الدولية، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ من الواضح أن الولايات المتحدة، وهي سيدة عالم اليوم، تسعى لإعادة تشكيل العالم، وخاصة بعد انتصارها في حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي، ونصرها في أفغانستان سواء حين كانت متعاونة مع «المجاهدين» من «مقاتلي الحرية»، أو حين شنت حرباً على «الإرهابيين»، بعد أن انقلب السحر على الساحر. كل هذه الأمور أعطت الولايات المتحدة، أو لنقل الصقور من مُصممي السيناريوهات في البيت الأبيض والكابيتول هيل ومجلس الأمن القومي والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، ثقة في النفس بالقدرة على إعادة تشكيل العالم، وشعوراً «بواجب» إعادة تشكيل العالم، بما يتلاءم وكون الولايات المتحدة هي محور النظام الدولي الجديد. وقد تعزز هذا الإحساس في أعقاب أحداث سبتمبر، التي تشكل في تقديري نقطة الحسم في التردد الاميركي بهذا الشأن، وهو التردد الذي كان عنوان مرحلة ما بعد سقوط اتحاد السوفيت. ففي أعقاب سبتمبر، يبدو أن الولايات المتحدة قد قررت أن تبني «الباكس أميركانا» منفردة بشكل شبه مطلق، واعتماداً على جهودها الذاتية الخاصة، خاصة بعد أن بينت معركة أفغانستان أن دور حلفاء أميركا، وخاصة من الأوروبيين، دور محدود، وأنهم من المتخلفين في تقنية السلاح وغيرها من تقنيات العصر، مقارنة بالقدرات الأميركية في هذا المجال، بالإضافة إلى التمرد الأوروبي المتزايد لمخططات السياسة الخارجية الأميركية. وبالنسبة لمنطقة الشرق، فإني أشم رائحة شيء ما في الأفق. رائحة إعادة رسم حدود المنطقة ودولها من جديد، سواء بالتقسيم أو الضم أو هما معاً، وذلك بمثل ما فعلت بريطانيا تحديداً، حين شكلت كيانات هذه المنطقة في أعقاب الحرب الأولى. فهنالك كلام كثير عن سيناريوهات يتم إعدادها داخل أروقة صناعة القرار الأميركي. والحقيقة أننا لا ندري عن صحة هذه السيناريوهات المطروحة في بعض وسائل الإعلام، ومدى مصداقية هذه السيناريوهات وما يُقال عنها، ولكن الأريب هو من افترض الأسوأ، وبنى خططه على أساس ذلك. كما أن المنطق البحت، أو بعضاً منه، في ظل غياب المعلومات الأكيدة، يقول ان مثل هذه السيناريوهات أمر محتمل، ولا مستحيل في عالم اليوم. فمن كان يصدق قبل نحو عقد من الزمان بأن الاتحاد السوفيتي سوف ينهار بين عشية وضحاها، وهو الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، مع الاعتذار لأبي الطيب. ومن كان يصدق، أو حتى يتوقع، تفتت الدولة اليوغسلافية، وعودة صراعات القرم والبلقان، وهي الصراعات التي كان يُعتقد أنها انتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى. هذا المنطق، إن كان صادقاً، يقول ما أشبه الليلة بالبارحة، والسياسة في النهاية، وخاصة سياسة الكبار، لا أمان لها. فإذا كان المُلك عقيماً، وفق مقولة عبد الملك بن مروان، فإنه كذلك على الدوام، وفي الأمس واليوم، والداخل والخارج على السواء.

فمثلاً، من الواضح أن لدى الولايات المتحدة خططاً لمستقبل العراق بعد التخلص من صدام حسين ونظامه، قد يكون من ضمنها إعادة الملكية إليه، بمثل ما حدث في أفغانستان. فإذا كانت الملكية هي المعبر عن وحدة الدولة العراقية الحديثة قبل الرابع عشر من تموز/يوليو، عام 1958، أو أُريد لها أن تكون كذلك، فلماذا لا تكون ذات الملكية هي الحل الأوحد الذي من الممكن أن يتفق عليه الفرقاء في الساحة العراقية، وهم الذين لا يتفقون؟ وقد يكون من ضمن هذه السيناريوهات ـ الخطط، دمج العراق مع دول مجاورة، أو تفتيت العراق إلى دول متعددة، أو هذا وذاك معاً. المهم في الأمر، أن المؤشرات تقول إن عراق الغد لن يكون هو ذات العراق الذي نعرف، بمثل ما أن أفغانستان كرازاي تختلف اختلافاً جذرياً عن أفغانستان الملا عمر. كما أنه من الواضح، ومن خلال قراءة ما يجري على الساحة اليوم من أحداث، أن هنالك سيناريو طويل الأمد قد تم إعداده بالنسبة للقضية الفلسطينية وسبل حلها. بنود هذا السيناريو لا نعرفها، وإن كنا على ثقة بوجود مثل هذا السيناريو، ولكن ما يجري على الأرض اليوم يعطينا بعض المؤشرات.

فمن الواضح مثلاً أن اريل شارون لا يتحرك في عماء، ولا يضرب دون هدف. الهدف النهائي لما يقوم به شارون، وفي تقديري على أقل تقدير، هو محاولة تفريغ «يهودا والسامرة» من الفلسطينيين عن طريق الرعب والإرهاب الشامل. أن ينجح شارون في ذلك أو لا ينجح، فهذه قصة أخرى ولها حديث آخر، ولكن المهم هو أن الهدف الكلي للعملية هو التفريغ في أفضل الأحوال، أو خلق دولة فلسطينية تابعة للسلطة الإسرائيلية، ومن ثم الخطة الأميركية للسلام، كما قد تكون واردة في بنود السيناريو الأميركي المتعلق بهذا المجال. قد لا تكون الولايات المتحدة متفقة مع الخطة الشارونية في التفريغ، ولكنها مهتمة بإنهاء القضية الفلسطينية بأي شكل من الأشكال الذي يحقق الاستقرار، واجتثاث جذور «الإرهاب» المتمثل في المنظمات الفلسطينية المسلحة، كي تتفرغ هي لتنفيذ سيناريوهات أخرى، وفي مناطق أخرى من العالم، وفي الشرق الأوسط الذي يهمنا تحديداً. فقد أصبح من المعلوم مثلاً أن الولايات المتحدة كانت تخطط لغزو العراق في شهر أيار/مايو المقبل، وكانت جولة نائب الرئيس الأميركي «ريتشارد تشيني» في الدول العربية لهذا الغرض. ولكن فشل تشيني في مهمته، بالإضافة إلى الرفض العربي لغزو العراق، وردة الفعل العربية غير المتوقعة لمجازر شارون في فلسطين، كل ذلك ادى إلى تأجيل الغزو. من هنا تكمن أهمية حل القضية الفلسطينية بالنسبة للولايات المتحدة، من حيث أنها عائق يقف في طريق تنفيذ السيناريوهات الأخرى من ناحية، واستمرار الحل الشاروني فيه إحراج للأنظمة العربية وتهديد غير مباشر لها من ناحية أخرى، وهنا تكمن المعضلة الأميركية، كما يُمكن أن توصف. قد تكون واشنطن ذاتها، ووفق سيناريو معين، تسعى إلى إعادة خلط أوراق الدول والأنظمة في المنطقة، ولكن ذلك لا يعني أن تختلط الأوراق دون تخطيط معين منها، ودون أن يكون لها نوع من التحكم في إعادة خلط هذه الأوراق. هذا، ويتواصل الحديث إن شاء العليم.