شهود في الطريق

TT

عندما اعلن كوفي انان تعيين مارتي اهتساري رئيسا للجنة تقصي الحقائق «خصوصا في جنين»، اعتذر الرئىس الفنلندي السابق عن الاجابة على اسئلة الصحافيين قبل التوجه الى المنطقة. وحتى بعد ذلك فإنه لن يتحدث مطولا للإعلام. قال ذلك والتفت مشيرا الى الأمين العام: «يجب ان اقدم التقرير اولا لرئيسي». ولا شك ان شعورا خاصا قد غمر انان في تلك اللحظة. فطوال خمس سنوات ايام السيد خافيير بيريز ديكويار، كان اهتساري هو رئيسه المباشر. غير ان ذلك لا يعني في مفهوم العمل في الامم المتحدة تسلسلا صارما في تنفيذ الاوامر بل تفاهم بين زملاء لبلوغ هدف مشترك. إذن، هو يريد ان يقول كذلك انه لن يقدم نتائج عمل اللجنة الى مجلس الأمن مباشرة، بل سيضع الامر بيد الأمين العام الذي سيقرر، بالتفاهم والتشاور، ما يبقي او يضيف قبل الاعلان او الاعلام. والاشارة الرمزية الأخرى كانت القول انه سيعمل بطريقة شمولية. وهذا يعني انه بالاضافة الى الاعضاء الرسميين سيأخذ رأي الفريق المعاون وفي مقدمتهم الجنرال الاميركي بيل ناش المستشار العسكري وتوماس فيتز جيرالد المستشار الايرلندي لشؤون الشرطة. وقد عمل الاثنان في البوسنة وكوسوفو تحت شعار المنظمة الدولية. وهي محاولة احتواء مُسبق للملاحظات التي لا بد ستقدمها الاطراف المختلفة حول تشكيل الفريق وسير العمل. فهو منفتح على الاستفادة من الخبرات المتعددة وفي النهاية هو الذي يقترح والأمين العام يقرر.

قبل ان ينجح في الانتخابات الرئاسية في فنلندا، كان اهتساري من ابرز المرشحين لخلافة الأمين العام اللاتيني، لولا انه ادرك ان الدور لافريقيا. فقد نجح في تنفيذ اصلاحات ادارية دون ان يخسر مودة زملائه الموظفين. وقاد المواجهة الدولية للتمييز العنصري في افريقيا الجنوبية عندما غادر مركزه في نيويورك مدة سنتين ليشرف مباشرة على استقلال ناميبيا الخطوة الاولى لكسر شركة النظام المفروض على تلك المنطقة. وهو هادئ الاسلوب خافت الصوت لا يؤمن بالخطابيات بل بالعمل المباشر. لديه مرونة واقعية وان كان لا يستسيغ التهويل. من المؤكد انه لا يحب النشاط ويميل الى التعامل الصادق. وهذا ما اكسبه احترام حركة التحرر الافريقي «سوابو» وثقة الاوساط الغربية وبينها الولايات المتحدة، ثم انه من بلاد كانت محايدة بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة ـ على بعد نصف ساعة طيران من سانت بطرسبورغ وعلى صداقة مع واشنطن. بعد ان عاد الى بلاده ساهم في جهود التهدئة في البوسنة.

وعند احتدام حرب دول الناتو حول البانيا، لعب الدور الابرز في وقف القصف العسكري بتفاهم ضمني مع الرئيس كلينتون وفهم واقعي من السيد ميلوسوفيتش. فهو لا ينتمي الى حلف الاطلسي وادرك ان كلا من الجانبين كان يبحث في النهاية عن مخرج ما. وفي ايرلندا الشمالية عندما وصلت اتفاقية السلام في العام الماضي الى طريق مسدود كان احد ثلاثة وافقت عليهم مختلف الاطراف للاشراف على آلية التنفيذ. وفي نفس الوقت حافظ على علاقاته بزملائه السابقين وبقيت فنلندا في مقدمة الدول المساهمة في عمليات حفظ السلام واسرعها في توفير مساعدات التنمية.

السيدة ساداكو أوغاتا اول امرأة يابانية اخترقت الجدار الفولاذي الذي فرضه الرجال على المؤسسة اليابانية. لم تكن معروفة كثيرا في الخارج قبل تعيينها مفوضا عاما لشؤون اللاجئين. ولكنها لمعت من خلال تحركها الميداني السريع في مناطق النزاع. من بوروندي ورواندا الى البوسنة وكوسوفو الى كمبوديا وتيمور الشرقية، حتى عندما عادت الى بلادها بعد عشر سنوات كانت اول من زار كابول المدمرة والمحرك الاساسي للمؤتمر الدولي الذي عقد في طوكيو للتعهد باعادة تعمير افغانستان. وعندما تسلم كوفي انان منصبه الجديد شاع انه يتجه لتعيينها في منصب مستحدث هو نائب الأمين العام. ونشر الخبر في «الفايننشال تايمز» بعد غداء خاص مع احد محرريها الذي عين بعد ذلك بقليل في الطابق الثامن والثلاثين. وتضاربت التخمينات حول سبب الاعتذار القسري على الأرجح. قيل مثلا ان السفير الياباني النافذ والد زوجة ولي العهد كان يفضل تعيين احد الاصدقاء من زمرة رجال الخارجية في منصب آخر وانه وجد العذر المناسب. فاليابان تسعى منذ عقود للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن وتعيين يابانية نائبا للأمين العام قد يشكل جائزة ترضية تحجب سبيل الوصول. ودارت الايام. بعد خمس سنوات، اي في مطلع العام الحالي عرض عليها رئيس الوزراء كوازيمي منصب وزير الخارجية، فاعتذرت. وقد يعني تعيين السيدة اوغاتا في اللجنة فتح نافذة على جهود اعادة الاعمار، رغم ان ذلك ليس من مهمات لجنة تقصي الحقائق، الا ان تمثيل اكثر الدول مساهمة في عمليات المساعدة ـ اليابان وفنلندا ـ بشخصيات رائدة في ذلك الميدان مؤشر الى نظرة ابعد.

اما العضو الثالث السويسري كورنيليو سوماروغا فلديه مصداقية مهنية وخبرة واسعة كرئيس سابق لمنظمة الصليب الاحمر الدولي. وهو يميل عادة الى الكتمان وتجنب الاضواء والتركيز على الهدف. وقد واجه مشكلة مع رئيسة الصليب الاحمر الاميركي التي اضطرت الى الاستقالة فيما بعد لسبب آخر يتعلق بأسلوب معالجة التبرعات التي تدفقت تضامنا مع ضحايا مركز التجارة العالمي في نيويورك.

لقد شكل كوفي انان اللجنة بعد يومين فقط من قرار مجلس الأمن. لم يستشر اية جهة رسمية واعتمد على الثقة العامة وحدسه الخاص، ولعله خشي ان فتح باب المشاورات ان يواجه ما حدث خلال تشكيل «لجنة ميتشل» المنتقلة الى غياهب النسيان والتي دامت اكثر من شهرين قبل الاتفاق على الاعضاء.

العبرة بالنتائج، وذلك يعتمد دائما على حرية التحرك وما بقي من الحقائق على الأرض واسلوب تعامل الاطراف المعنية مباشرة معها.

قبل اسبوعين اعلن مديرو البرامج الدولية العاملة في حقل التنمية البشرية والاغاثة الانسانية خلال اجتماعهم في روما انهم قرروا اتخاذ قرار غير مسبوق بالاعراب معا عن «الأسى والغضب العارم للأعمال في الاراضي الفلسطينية المحتلة والنتائج التي ستؤدي الى تأجيج المأساة الانسانية». واشاروا الى المضاعفات السلبية على الشعب الفلسطيني والنتائج المحتملة على الاستقرار والسلام الدائم، والى توقيف سيارات الاسعاف والاطباء مؤكدين «ان القنابل الانتحارية التي تستهدف المدنيين الاسرائيليين مرفوضة تماما»، غير ان الدفاع عن النفس ضد هذه الاعمال لا يحرر اسرائىل من التزاماتها بموجب قانون الانسانية الدولي او يبرر تجاوز حقوق الانسان المعترف بها دوليا. لم ينشر هذا البيان في اي مكان لأنه لم يصدر كبيان صحفي عن الامم المتحدة كما جرت العادة. اداريا قام الناطق الرسمي بواجبه عندما تلاه على من حضر في القاعة الصحفية. عمليا لم يصل الى ايدي الصحفيين. ولم ينتبه لذلك الا وفد عربي واحد ولم يحدث من قبل ان اوقف نشر بيان على هذا المستوى. فلكل واحد من المشاركين دائرة اعلامية وجرت العادة ان ينشر ما يصدر عن اي منهم منفردا فكيف بهم مجتمعين. لا بد ان يكون التدخل على مستوى خطورة الموضوع. وهي تكمن في ان اكثرية الموقعين لم يكونوا عربا ولا من العالم الثالث، بل شخصيات مرموقة من العالم الصناعي بينهم اميركية تنتمي الى الحزب الجمهوري الحاكم وأخرى للحزب الديموقراطي وثالثة كانت رئيسة وزراء النرويج وبريطاني يدير برامج التنمية وكان نائبا لرئيس البنك الدولي وهم عادة من اصدقاء دولة اسرائيل وبعد ذلك زار تيري رود لارسن جنين وادان التدمير وتعرض للتهجم من اطراف في الحكومة الاسرائىلية. والمعروف ان لارسن هو اقرب المسؤولين الدوليين الى المؤسسة السياسية في اسرائيل منذ اتفاق اوسلو وجائزة نوبل. كانت مادلين اولبرايت قد رشحته للدكتور بطرس غالي ليذهب ممثلا له في غزة وغادر ليعود قبل ثلاث سنوات بدعم من وزارة الخارجية الاميركية وتأييد الحكومة الاسرائيلية وترحيب السلطة الفلسطينية في المقابل. هناك بين الذين وقعوا نداء روما استنكارا لتدمير البنية الفلسطينية من كان قد تعرض للتهجم من اطراف عربية وفلسطينية، في مناسبات سابقة اكثرهم وضوحا واستمرارية، بيتر هانسن، مدير الانروا، واجه التجاهل واحيانا التحامل دون ان يؤثر ذلك على قيامه بالواجب. ماري روبنسون التي هددها مستعمرون بالسلاح كانت قد تحملت بكرامة صامتة حملات التعريض والتشكيك دون ان تبدل موقفها المبدئي الثابت.

وهؤلاء الاعضاء في لجنة تقصي الحقائق، لا هم انصار ملتزمون بالنضال من اجل قضية العرب الاولى ولا هم في خدمة جيش الاحتلال. انهم مسؤولون دوليون ملتزمون بقرارات الشرعية الدولية وميثاق الامم المتحدة. هدفهم هو تنفيذ مهمتهم المحددة ما استطاعوا بأقصى مدى من الحرية والتسهيلات واقل قدر من المناورة والمضايقات.

لقد احسن الأمين العام واسرع في تشكيل اللجنة، عسى ان نسرع لمساندتها ونحسن التعامل معها.