حفل عشاء وجلسات كهربائية

TT

تمثل سلامة المواطن، في التفكير الغربي الحديث، بندا جوهريا في العلاقة التعاقدية، القائمة بين الرئيس والشعب. وهي الورقة الرابحة، التي يلوح بها المتنافسون، على الرئاسة في الانتخابات، فترى أن الوعد الأكبر المهيمن، في البرنامج الانتخابي، للمترشح للرئاسة، هو تأمين حياة أفضل للمواطن، وضمان أكبر قدر من السعادة له حتى يكون أكثر المواطنين تعميرا في الدنيا. وقد تنامى الهوس بسلامة المواطن، منذ قيام الثورة الفرنسية، وشهد تعاظمه، مع الأيام ومع النجاحات، التي حققها العقل الغربي، إلى أن أصبح المواطن الغربي، رأس مال، لا يقبل الخسارة أو المجازفة، وهي نتيجة منطقية، يعيشها أي رأس مال، يعرف الاستقرار، ويتمتع بدعائم الحماية المتجذرة. ونظرا إلى أن تطبيق، أي نظرية ينجر عنه بمرور الزمن، صياغة لقيم جديدة، فإن علاقة المواطن، في الغرب بالحياة، باتت علاقة مغرقة في الدنيوية، ومتشبثة بالحياة، وبمختلف شهواتها، فتم استبعاد معظم أسباب الموت، التي لها علاقة بالاستشهاد، أو بالنضال، أو بالتضحية في سبيل القضية، أو غراما بأديم أرض عزيزة، وذلك لأن المواطن الغربي، بعيد عن مثل هذه الوضعيات، فأرضه تحت أقدامه، وقضاياه محلولة، ومشكلته تنحصر في المزيد من المرطبات والحلويات والخمور الأكثر دفئا ونشوة. ومن أجل العيون الزرقاء، صار لزاما، على المعنى أن ينقلب، وعلى اللغة أن تنضبط، وتخلع عنها، ما كانت ترتديه من ثوابت، وتلبس ما يجعل العيون الزرقاء، أكثر صفاء، واتساعا، وسفرا في الدنيا ومتاعها. وأول الانقلابات المنفذة، هو أن تعي كل الشعوب الأخرى، بأن الثورة والدفاع والاحتجاج والعنف، كلها أعمال إرهابية، يقوم بها شياطين، ينتمون إلى محور الشر. وهذا يعني، أن العقل الغربي في حالته الراهنة، وفي مستواه السياسي، يتسلل من ثقب الفكر، لينفذ استراتيجيات دفاعية هجومية، تحاول أن تهزم المنطق ذاته، وتخلق حالة من العجز، في العقل المقابل الذي تمثله، كل الشعوب المقهورة والمسلوبة الحقوق، فيصبح المطلوب منها، هو أن تبتكر استراتيجيات جديدة غير ميكانيزمات، الثورة والانتفاضة والمقاومة. ومثل هذه الضربة الفكرية الخطيرة، التي تنسف منطق الحق، هي بمثابة جلسات كهربائية، يخضع إليها عاقل، في كامل مداركه العقلية، بفعل مؤامرة، تحاك ضد وعيه، وضد قدرته على الإدراك.

ويزداد حجم الجلسات الكهربائية وحدتها، مع تنامي رفض المنطق لها، لذلك فالعمليات الاستشهادية، قابلتها الدمغجة الأمريكية، بعمليات ضغط قوية واستفزازية، ذهبت إلى حد اعتبار، شارون رجل سلام، وهو تصريح يراد من ورائه، الإلقاء بالعقل العربي، في حالة من الهبل والجنون، وبالتالي القبول بألا منطق، كحل لتأمين وضع حيواني، يغادر من خلاله الشعب المظلوم، الدائرة الإنسانية أولا كمجموعة أفراد وقائمة الشعوب كتصنيف سياسي في مرحلة ثانية، وبسقوط الصفتين المذكورتين تسقط كل الحقوق الأخرى. ونحن الآن، في المنطقة الموجودة بين الإنسانية التي ينتمي إليها المتحضرون الجدد والحيوانية التي قبلت باحتواء كل المتخلفين، وحالنا هو حال الرافض للخروج، والرافض للدخول، نحاول الدفاع عن مرتبة ما، كفرس جامحة، ضيقوا عليها الخناق. ولقد بدا واضحا، أن الطرف المنتمي إلى العقل الغربي، والذي معه نخوض المعركة، قد تفطن إلى نقطة تفوق قوية، يمتاز بها الكائن العربي، برغم ما يعيشه من ظلم وقهر ودونية واستلاب واستعمار شامل. ويتمثل هذا التفوق، في استعداد العربي للموت، وللتضحية لذلك فإن تلك الحالات الاستشهادية، علاوة على تهديدها للأمن الإسرائيلي، فهي تخلق حالة رعب، في الفكر الغربي الذي أصبح عاجزا عن مواجهة الأشكال الأخرى للموت، ويأتي مرد هذا الرعب في أنه يجعل، من مصادر قوة العقل الغربي، مصادر خالية من جدواها، ومن كل صلوحية، خاصة وأن كل شيء أمام الاستعداد للموت يصبح لا شيء يذكر. وهي مزايدة، من القوة ومن التلقائية ومن الحقيقة ما يجعل أمريكا وإسرائيل، تسلكان كل ثنايا اللجم والقصف، للقضاء على عبقرية الاستعداد للموت، تلك العبقرية التي لا يمتلكها الأمريكي المتعاطف مع الإسرائيلي والإسرائيلي المتعطش للدم الفلسطيني، وذلك لأن العبقرية المذكورة، لا تمنح إلا لأصحاب الحق، الذين يوازون، بين مثقال الحق ومثقال الحياة.

وإذا تمكن الآخر العدو، من التفطن إلى هذه العبقرية، فإنه من السخف أن نتغافل عنها، وأن نطرحها كعائق أمامنا، وأن نفرط فيها من خلال بيانات طلبت تحديدا من أجل نسف عبقريتنا الوحيدة، المتمثلة في الاستعداد للموت، ذلك الاستعداد للاستثناء والخارق، والذي جعل من الآخر القوي الماسك بزمام العالم وبأزرار النووي، يعيش الخوف، ويكتمه بفرعنة ظاهرية، تخفي ما تستبطنه، وتحاول أن تجعل من الثورة، حفل عشاء أو كتابة مقال أو رسم لوحة كما انتقد ذلك ماوتسي تونغ مضيفا بأنه لا يمكن أن تكون الانتفاضة، بهذه الرقة واللطف، لا يمكن أن تكون رحيمة ولطيفة ودمثة ومهذبة، ومن جهة أخرى يزداد اليقين بأن الغرب أمام مصالحه، فإن كل شيء يصبح قابلا للتطويع وللتشويق وللتشكيل كيفما شاءت المصلحة، لذلك فإن هذه الحرب التي تخوضها أمريكا وإسرائيل ضدنا، هي في نفس الوقت، ضد العقل الذي أنتجهما، والعقول التي ترعرعت، في ربوعهما أمثال نيتشة وتولستوي وباكونين، الذين دعوا إلى تشجيع جرائم العنف، وإلى تحطيم التنظيم الدكتاتوري بديكتاتورية مجهولة تعمل في الخفاء وترمي إلى تحرير الناس من الظلم، بل أن واحداً من العقول الغربية، يدعى بوهان موست، قد وضع برنامجا حافلا للخلاص من كل الحكومات، المحتكمة لغطرسة القوة، باغتيال كبار المسؤولين كوسيلة لبث الرعب، دون أن ننسى طبعا بأنه بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت أشكال متعددة للعنف الثوري كعصابات المدن، والألوية الحمراء في إيطاليا، والجيش الأحمر في اليابان، وتنص فلسفة هذه الجماعات، على أن الحوار الديمقراطي مع الأنظمة الرأسمالية لا يجدي، وهذا يعني أن هذه الرأسمالية، قد واجهت بصفة مبكرة الرفض القائم على العنف من جماعات أتت من رحمها، الشيء الذي يؤكد بأن الاستنكار الأمريكي للاعمال التي صنفت إرهابا في المناطق العربية المحتلة، هو استنكار ممسرح، يخضع لدهاء سياسي، ويرمي إلى القضاء، على عبقرية العرب المتبقية، وعلى الكفاح كحقيقة، قام عليها تاريخ البشرية والشعوب، متناسية بأن الأب نفسه في عرف العائلة ـ المجتمع السياسي الصغير ـ يثار عليه، فما بالنا بالماما أمريكا.

كاتبة وشاعرة تونسية [email protected]