مأساتنا.. بين ظروف الماضي وخطوات المستقبل

TT

الراصد لمأساة شعب فلسطين، والمتابع لأخبارها المتلاحقة، يدرك انها لم تعد قاصرة على حدود فلسطين وانما امتدت لتشمل مختلف الدول العربية، ويدرك أيضا ان النتيجة التي وصلت لها وما يمكن ان تنتهي اليه في المستقبل القريب، ليست في يد قوة واحدة مطلقة السراح، تحقق ما تشاء بارادتها المفردة.

القضية بالغة التعقيد، والقوى المحلية والدولية متشابكة المصالح والاتجاهات، وما تسفر عنه الاحداث يوما بعد يوم يجعل الجميع يتساءلون.

وماذا بعد؟

هذا السؤال يعبر عن الهموم التي تثقل الصدور، وعن الحيرة التي تستبد بالعقول.. وهنا نحاول التعرف على الأسباب التي أدت الى هذه الحالة المأساوية التي وصلت اليها المنطقة.

أولا: معاداة السلام رجحت كفة معاداة السلام في اسرائيل عندما انتخب الشعب الاسرائيلي ارييل شارون رئيسا للوزراء بعد تاريخ ملطخ بالدماء في صبرا وشاتيلا، وموقف رافض للاتفاقيات الموقعة بين الحكومة الاسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها اتفاقيات أوسلو، وجنوح لاستخدام القوة العسكرية لفرض الأمن والاستقرار، وأصبح الشعب الاسرائيلي بذلك مسؤولا عما يقدم عليها شارون ومع ذلك لم يتحقق لهذه الحكومة في خدمة تحالف الليكود، أن تفرض الأمن والاستقرار رغم تأكيدات شارون المتتالية بأنه سوف يحقق أهدافه خلال 100يوم وكل ما حققه هو تدمير وتخريب مدن وقرى الضفة الغربية وقتل واعتقال المئات خلف أبواب المعتقلات، ورغم بشاعة الصورة التي أصبحت عليها المنطقة الآن الا أن صوتا فلسطينيا واحدا لم يرتفع مطالبا بالركوع والاستسلام وكل أصوات الشعب الفلسطيني من الرئيس ياسر عرفات الذي حدد شارون اقامته منذ شهور الى أبسط مواطن أو مواطنة تنادي بالمقاومة رغم جسامة الخسائر والتضحيات ونقص القدرة والامكانيات المسلحة، وهكذا تبقى المنطقة في حالة غليان الى أن ترجح كفة السلام الذي يناضل من أجله معارضة متصاعدة لارييل شارون تضم انصار السلام وجمعيات حقوق الانسان، والقوى الخيرة من أبناء شعب اسرائىل، وهي قوى مازالت ضعيفة وغير موحدة أو مؤثرة رغم ما لحق بشعب اسرائىل من متاعب.

ثانيا: ضمور دور الأمم المتحدة وصول منطقة الشرق الأوسط الى هذه الحالة من التردي بعد الأمل والتفاؤل الذي صاحب الاتفاق على بدء المفاوضات الثنائية بعد مؤتمر مدريد في اكتوبر (تشرين الاول) 1991 على أساس تطبيق قرارات الأمم المتحدة، وتحرير الأرض مقابل السلام، وصول المنطقة الى هذه الحالة يعود أساسا الى ضمور دور الأمم المتحدة، وعجزها عن تطبيق قرارات مجلس الأمن نتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب الباردة وتراجع دوره كدولة راعية للسلام مع اميركا، والسبب في ذلك هو انفراد اميركا بموقف الدولة العظمى التي تحاول وحدها الهيمنة على العالم وفرض ارادتها وسياستها على جميع القارات، وتعاونها الاستراتيجي مع اسرائيل قديم ومعلن، وادارتها الحالية التي يرأسها جورج بوش تخضع لحسابات الانتخابات التي ترتبط تماما بقوة الضغط الصهيونية في المجتمع الاميركي.

ورغم القرارات المتتالية التي صدرت من مجلس الأمن منذ انفجار بركان العدوان ضد شعب فلسطين الا انها جميعا لم تنفذ بالصورة الواجبة التي تعطي هيبة للأمم المتحدة، وتؤكد دورها كمنظمة تجمع دول العالم جميعا حول ميثاق واحد. وآخر مظاهر ذلك تأجيل كوفي عنان ارسال لجنة تقصي الحقائق في جنين بعد اعتراض اسرائىل، واقالة المدير العام لمنظمة حظر الاسلحة الكيميائية وهو برازيلي بناء على اقتراح اميركي.

ثالثا: قصور التضامن العربي أجمعت الدول العربية على اختيار السلام خيارا استراتيجيا منذ مؤتمر مدريد، ولكن المفاوضات الثنائية التي تمت خلال السنوات الاحدى عشرة الماضية لم تحقق سوى اتفاق واحد مع الأردن ومع ذلك لم تبحث الدول العربية اتخاذ موقف جديد لا يتناقض مع خيار السلام، بعد توقف المفاوضات وعدم الوصول الى اتفاق، فمنذ عام 1990لم ينعقد سوى مؤتمر قمة القاهرة في 1996بعد وصول نيتنياهو الى رئاسة الوزارة وما أسفر عنه موقفه من تحجر وجمود، ولا شك ان هذا القصور في التضامن قد أسفر عن تناقضات كان من الممكن تفاديها في حينها مثل أهمية الاتفاق الجماعي على اتفاقيات أوسلو، وضرورة وقف التمادي في العلاقات مع اسرائيل الا اذا اقترنت باقرار السلام، وهو ما خرجت عليه موريتانيا عندما تبادلت العلاقات الدبلوماسية مع اسرائىل واستمرار قطر في فتح مكتب تجاري اسرائىلي بها رغم اغلاق تونس وسلطنة عمان لهذه المكاتب تنفيذا لقرار الجامعة العربية.

واذا كانت هذه هي الأسباب الرئيسية التي أدت الى هذه الحالة المأساوية التي تعيشها المنطقة، فإن محاولة التعرف على ما سوف يحدث في المستقبل ترتبط تماما بحدوث متغيرات في الأسباب التي دفعت الى هذه الكارثة.

يأتي في المقدمة التضامن العربي الذي هو سلاح الأمة العربية الوحيد الذي تستطيع به مواجهة العالم في القرن الواحد والعشرين، وأي قصور فيه تكون له نتائج سلبية على الجميع، وترتبط بهذا التضامن أهمية وضرورة وضع خطة توجه قدرتنا الاقتصادية لخدمة الأمة العربية وشعوبها من دون اعتماد على المعونات الخارجية التي تستخدم كوسيلة ضغط على الدول، واذا ما توافرت لنا هذه القدرة والكفاية الذاتية أصبح اعتمادنا على الخارج محدودا وحرية حركتنا مطلقة وغير مقيدة.

وتأتي بعد ذلك أهمية دعم وتشجيع القوى والتنظيمات والهيئات التي انطلقت منها موجات التأييد الشعبي في صورة مظاهرات قامت بها القوى المحبة للسلام في العالم وشملت عددا كبيرا من الدول بما فيها اميركا لخلق رأي عام دولي مؤيد للحقوق العربية ومقاوم للتجاوزات الاسرائيلية.

وهكذا يمكن ان نخطط صورة للمستقبل بعيدة عن التشاؤم.