إخفاق التنمية والتربية وراء مأساة ملايين المهاجرين العرب

TT

تعودت ان لا اكتب الا نادرا عن المشهد الاوروبي، لإيماني بأن الصحافي أو الكاتب العربي المقيم في اوروبا يجب ان لا يكون بعيدا عن التحولات السياسية والاجتماعية التي تجري في عالمه العربي.

وتوفر الاقامة في لندن او باريس فرصة نادرة للتفكير والكتابة بشيء كثير من الحرية والاستقلالية، وبقدر كبير من المعرفة. فقد تحولتا الى عاصمتين عربيتين تجد في سوقهما السياسية كل ما يهمك ان تعرف عن آخر وادق ما يدور في اية عاصمة عربية. والصحافة العربية التي حولت هجرتها الى اوروبا الى مجرد رحلة سياحية لذيذة وآمنة على ضفاف السين والتيمز قد توارت او عادت الى بلدانها بمجرد ان امتنع الممولون عن تمويلها.

ظاهرتان اثنتان تشداني الى هذا الصخب الذي تعيشه اوروبا اليوم: ردة الشارع الاوروبي العنيفة تجاه صعود الفاشية الاوروبية. ثم علاقة هذا الازدهار الفاشي والعنصري بالوجود العربي والاسلامي المتمثل بثلاثة عشر مليون مهاجر ومقيم في اوروبا الغربية وحدها.

لقد صوت الفرنسيون لجان ماري لوبين ثم نزلوا الى الشارع للتعبير عن الاحتجاج والرفض لكل ما تمثله غرائزه السياسية! لقد اكتشفوا في ثورة غضبهم على اهتراء المؤسسة السياسية التقليدية انهم استقدموا رجلا معاديا للديمقراطية، ووضعوه في صميم اللعبة السياسية، بحيث بات وسط ذهولهم ودهشتهم المرشح الوحيد المنافس لشيراك على قصر الاليزيه الرئاسي في الدورة الانتخابية التي ستجري بعد أيام قليلة.

لوبين ليس جديدا. انه هو ايضا وجه باهت وقديم، ويختلف تماما عن وجهه البرونزي وشعره الاشقر في صوره الانتخابية. وفاشيته نسخة متطورة للفاشية البوجادية التي انتسب اليها في خمسينات القرن الماضي. ومن المحتم ان يهزم بسهولة امام مرشح اليمين التقليدي، وسيتوارى سريعا بحكم العمر (73 سنة) من المشهد السياسي ومن اللعبة الانتخابية الرئاسية التي مارسها منذ ثلاثين عاما.

لكن المثير للاعجاب هذا الدفاع المجيد عند الاوروبي العادي عن الديمقراطية. فالتمسك بالحرية هو فقط وحده مسألة حياة او موت عنده. لقد مات عشرات ملايين الاوروبيين لدفن الفاشية في الحرب العالمية الثانية. وها هم ابناؤهم واحفادهم مستعدون للتضحية بالحياة من اجل قبرها من جديد.

الخطر في الفاشية التي تجد جذورها الفلسفية في هوامش الفكر الاوروبي الحديث، يتجسد في وصولها في الماضي الى السلطة من خلال اللعبة الديمقراطية. فهتلر وموسوليني انتخبا عبر الاقتراع الحر في المانيا وايطاليا في غمرة دعاية حزبية صارخة وغوغائية.

حيوية الديمقراطية تكمن في عوامل قوتها وضعفها. فاعتناقها مبدأ الحرية هو الذي يفرض عليها السماح لعقائد وآيديولوجيات معادية لها بالعيش والحياة في مجتمعاتها.

لقد تعلمت آيديولوجيا الرأي الواحد كيف تستفيد من ممارسة الحرية في المجتمع الديمقراطي. لكن وعي الرأي العام هو الذي يبقي الفاشية او التروتسكية على هامش الحياة السياسية.

الديمقراطية الاوروبية لا تحيط قصور الرئاسة بالدبابات لحماية نفسها من الانقلابات العسكرية، ولا تكبل نفسها ومواطنيها بأجهزة القمع والتعذيب. وأعتقد ان العرب عندما يتوفر لديهم الاستعداد للموت من اجل حريتهم، فستختفي كل أشكال الاحتكار والاستبداد، وتنطوي معها ايضا آيديولوجيات التعصب المعادية للحرية السياسية والاجتماعية المزدهرة حاليا في المجتمعات العربية والاسلامية.

نعم، المؤسسات العسكرية لها وجودها في مؤسسة الحكم الغربية. وهي تقليديا على اليمين ومؤيدة للتيارات المحافظة. لكن صوتها دائما هامس في أذن طبقة الحكم، ولا يجرؤ جنرال مهما علت رتبته او شعبيته على تحدي وزير الدفاع المدني، لكون الاخير منتخبا من الشعب بالاقتراع الحر، او ممثلا للاغلبية المنتخبة.

الآيديولوجيات العربية العتيقة او المتعصبة لم تتعلم كيف تغير جلودها والسنتها كما فعلت آيديولوجيات اليمين الفاشي واليسار المراهق في اوروبا. لم تجد الاحزاب الشيوعية العربية، مثلا، ضرورة لعقد مؤتمر عام لمراجعة مواقفها وفكرها ولبيان رأيها في اخفاق التطبيق الماركسي، لان الرأي العام العربي غير آبه بقضية الحرية، ولأن المثقفين القوميين والماركسيين العرب غير متعلقين بقضية الحرية، وما زال بعضهم «يحج» سنويا الى بغداد لممارسة طقوس الانبهار بشخصية المستبد المطلق.

وفي غيبة الوعي الشعبي والنخبوي بقيم الديمقراطية، ما زال الخطاب الأصولي الديني وعظيا وارشاديا ويعتبر نفسه مكلفا بمهمة فضائية للف المجتمع بنظام شمولي يقضي على حرية الاختلاف في المجتمع الحر، بل يقبل بالديمقراطية شرط ان توصله الى السلطة ليحتكرها دون ان يتنازل عنها، تماما كما تحتكرها النظم القائمة ولا تتنازل عنها.

الفاشية تتغذى دائما من لحوم الآخرين. فقد جعلت من تنامي الوجود العربي والاسلامي في اوروبا ركيزة للدفاع عن الهوية الوطنية والخوف على التقاليد الاجتماعية والتباكي على الخصوصية اللغوية والثقافية القومية. ولا شك ان قطاعا عريضا من الرأي العام الاوروبي الذي يرفض الفاشية، يشاركها في موقفها من الوجود الاجنبي المتنامي على أرضه.

العقل العربي والاسلامي في اضفائه البراءة الاعتذارية على مواقفه وسلوكه من الاخرين، يعمد الى تضخيم الظلم الواقع عليه في المجتمعات التي تستضيف ابناءه، فيما يمارس هو نفسه استفزازه لها وتجاهله لتقاليدها وعدم احترامه لهويتها ومشاعرها.

لقد توارى قادة الفكر والثقافة والعلم من العرب المقيمين والعاملين في اوروبا. وتصدى لقيادة الاجيال المهاجرة اناس باشكال منفرة وهيئات غريبة، ولا يملكون الثقافة والوعي لإدراك فضيلة الحرية التي يتمتعون بها في مجتمعاتهم الجديدة. خذ مثلا هذا الذي ركز خطافا (شنغلا) فولاذيا معقوفا في يده يلوح به في استهزاء ولا مبالاة في وجه الصحافة والتلفزيون.

وخطر هؤلاء الاجتماعي يفوق خطر تنظيماتهم وخلاياهم العنفية. وهو يتجلى في ابتزاز الايمان لدى الاجيال الجديدة المهاجرة، ودفعها نحو التقوقع داخل «غيتوهات» بائسة تعيش على هامش المدن والثقافات واللغات. ويستغل الاعلام الاوروبي السلبي الخطاب الاصولي الرافض لقيم المجتمع المدني، وللتقاليد الديمقراطية في احترام الآخر التي باتت في صميم الوعي الاوروبي الحديث.

الفقر والتخلف وضعف الوعي والثقافة والاحباط والبطالة وعدم القدرة على الانسجام والتكيف... كلها عوامل تساعد الدعاة والوعاظ على ممارسة الاستلاب والسيطرة على هذ الجيل المحروم الذي يرى لذائذ المجتمع الصناعي الرأسمالي دون ان ينعم ويتمتع بها.

لست من حزب لوبين صديق صدام. ولا أومن بما يؤمنان به، من سجون وزنزانات واعدامات وطرد وتهجير، لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية. لكن احمل المجتمعات العربية والاسلامية التي تلفظ ابناءها في ذروة قدرتهم ونشاطهم مسؤولية ضياع الملايين في مجتمعات مختلفة عنهم لغة وثقافة وحضارة ومفاهيم وتقاليد.

فشل التربية الوطنية في تأصيل الانتماء العربي والهوية القومية في الاجيال الجديدة، يعرض القطاعات المهاجرة منها الى الاندماج والتلاحم مع قطاعات اكثر تخلفا وبؤسا في المجتمعات المضيفة وقادمة من دول اسلامية مختلفة. ويوحد هؤلاء جميعا وعاظ ومرشدو الاصولية باشكالها التبشيرية الساذجة، لكنها اكثر قدرة على التغلغل في «الغيتوهات» من الديبلوماسية العربية المرفهة والناعمة، بل هي امضى في ممارسة التطويع وغسل الادمغة من انشط اجهزة الامن العربية العاملة في اوروبا. كلما مررت باحياء العرب والاتراك والاكراد والسود في باريس اشعر بالحزن لمظاهر التعاسة والبؤس، واشعر بالخوف من العنف. انهم جميعا ضحية فشل التنمية في بلدانهم في التوفيق بين انتاج السلع وانتاج البشر.

ليس هناك نظام عربي يجرؤ علنا على تخطيط الاسرة للحد من الانفجار السكاني، فيما يلتهم المشروع الامني الموارد القليلة التي كان يجب انفاقها على التربية والتعليم والثقافة والصحة ومشاريع العمل... لتثبيت الشباب والاجيال في وطنها الكبير باحترام وكرامة، دونما حاجة الى الموت غرقا او اختناقا في رحلة الهجرة، ودونما حاجة الى مواجهة لؤم وخسة فاشية عنصرية.

وايضا، دونما حاجة الى ان ينشل الطفل العربي المهاجر ياسين الدريهمات القليلة في جيب المرشح فرانسوا بايرو خلال جولته الانتخابية. لقد تلقى صفعة من المرشح الرئاسي البخيل. لكن ام الطفل النشال وجدت الجرأة للدفاع علنا عن حرفة ياسين الذي لم يتلق التربية الواعية في البيت الفقير الذي لفظه الى الطريق.