السيف والسرير في السياسة الغربية

TT

في ردة فعل ذات دلالة مثيرة، يصف الفرنسيون نجاح الزعيم اليميني المتطرف جان ماري لوبن، في الوصول إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، بأنه «زلزال»، «هزة» او «صاعقة»، ويستخدمون لهذا الغرض، مختلف المفردات الجيولوجية، المحمّلة بالمعاني القدرية، التي توحي بأن ما يحدث على ارضهم، يأتيهم هابطا من السماء او ينشق عنه باطن الأرض، وان تلك «الفضيحة» ليست، في أي حال، صنيعتهم. علما بأن واحدا من بين كل اربعة فرنسيين كان قد اقترع للتطرف اليميني، وان 43 في المائة من المتخلفين عن الاقتراع هم من المتعاطفين مع لوبن، بحسب استطلاع للرأي اجري اثر الاعلان عن النتائج. مما يعني ان «العنصري» الذي يتبرأ الفرنسيون من لوثته في المظاهرات الحاشدة وعلى الشاشات الغاضبة، لم يكن بعيدا عن الفوز بأصواتهم هم ـ لا بأصواتنا المكمومة ـ بالمرتبة الاولى بين المرشحين الرئاسيين.

انما كل المبررات مفيدة لأحفاد الثورة الفرنسية وصنّاع ومصدري شعار «حرية، مساواة، إخاء» لاقناع انفسهم والآخرين بأن الامر هو عارض سياسي، وليس تغييرا بنيويا في الذهنية الفرنسية، ورؤيتها لمن حولها، ودورها الذي تبتغيه لنفسها في العالم.

وعملا بنصيحة الكاتب الهنغاري أرتو كوستلر، فان على فرنسا وجيرانها الأوروبيين، الذين يعانون محنة التفريخ الفاشي الاعتراف بأن «ثمة علاجا وحيدا للخوف هو الشجاعة» لان سياسة النعامة لا تأتي لأحد بالسلامة. ومن الشجاعة القول ان لوبن وأمثاله من قادة التطرف الأوروبي، الذين يكثر الحديث عنهم اليوم، ليسوا سوى الواجهة القاتمة التي تختبئ وراءها غابات المتطرفين الاقل نجومية احيانا، والاكثر مكراً ودهاءً في غالبية الاحيان. ولم يخطئ ادوارد سعيد حين قال «اننا نعيش في زمن آيات الله» من كل دين وملة. بل لعل التطرف الفجّ، العاري، والمتبجح، على طريقة لوبن يسهّل مهمة محاصرته، بينما يحتاج المفلتون من التصنيف والتشهير الى، ما لا يقل، عن مؤتمر دولي لتعريف «التطرف»، كي تسهل مقارعتهم. وهو تعريف سيقي، ربما، هذه المفردة المطاطية المعاني والاستعمالات مما اصاب شقيقتها «ارهاب» من لي عنق، واستغلال. اذ اننا وبعد طول جدل وخصام، سنكتشف ان الجميع قد اعفي، في النهاية، من التهمة ورست القرعة، من جديد علينا. اما على الضعيف تدور الدوائر، خاصة أن الغرب الأوروبي والأميركي كان قد روج اعلاميا للتطرف الاسلامي، على مدار العقدين الماضيين، حتى كاد لشدة ما حدّق في عيوبنا ان ينسى معاينة عوراته.

وبالعودة الى تعريف «التطرف» أليس من أبرز سماته رفض الآخر، ومقت المختلف، واعتباره عدواً بغيضاً يتوجب، في أرحب الحالات، تدجينه وقولبته كي يشبهنا حد التماثل القاتل او يمحق ويسحق ان لم يتقن فن الاختفاء من امام عيوننا. السيد لوبن لا يحتمل سمرة المهاجرين ويقرّ بأنه لا يستطيع ان يحبهم الا حين يكونون في اوطانهم، ولا يطيق ثقل دم شراكة الأوروبيين. وكما تتصاعد صيحات بأن «النمسا للنمساويين» و«الدنمارك للدنماركيين» يريد الرجل «فرنسا للفرنسيين» يقي شعبها لعنة التمازج وغي الاختلاط والاندماج .

ومقارنة بما تشهده أوروبا تبدو أميركا، للوهلة الاولى، وكأنها نموذج حي للتسامح والانصهار، لكنه مغمس، تاريخيا، بحروب ابادة والغاء حد الافناء. وما كتبه تزفتن تودوروف، في مؤلفه «فتح أميركا»، عن فظاعات ما ارتكب بحق السكان الاصليين لا يدل على ان ثمة شبيها يضاهي بشاعته في التاريخ.

فهل تابت أميركا، أم ان مسارها الحالي هو استمرار ممنهج لسياسة محو المختلف والقضاء على الناتئ والعمل بكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة لرؤية سكان الكوكب، من بدوي الصحراء الى قبلي أفريقيا واسكيمو القطب المتجمد، جميعهم في لباس موحد من «البلو جينز». صحيح ظاهريا، ان أحدا لا يستطيع اجبارنا على اعتماد وجبات الهمبرجر، لكن الآيديولوجيا الأميركية واضحة: فحين لا تكون «معنا» فأنت «ضدنا»، هكذا تطرح نفسها ببساطة، لأنها ادهى واذكى من ان تقول أنت «مثلنا» ام «مختلف عنا» لنتدبر أمرك.

وفرنسا لو انها تتمتع، اليوم، بقوة أميركا السياسية وسطوتها التوسعية ما كانت لتنجب متطرفاً محدود المطامع على طريقة لوبن، يريد ان يحول بلاده الى محمية للجنس الفرنسي وتقاليده الحضارية الرفيعة، ويغلق الابواب ليستريح من ضجيج ماضٍ استعماري لم يتبق منه سوى مهاجرين فقراء وبائسين. لو ان فرنسا في اوج عزها الاستعماري لأنتجت فاشياً يعشق مبدأ نسف الحدود، وتغيير وجه المستعمرات، وطمس الهويات، بحيث ينسي الناس لغات أمهاتهم وحليبهم الذي رضعوه. وبالتالي، فالفرق الجوهري بين الرغبات الأوروبية التقوقعية حد الإنهاك ومولودها الأميركي الجامح الشباب، هو في القدرة والامكانيات لا في طبيعة التطلعات. اذ ان الانفتاح والتكامل مع الآخر، بمغزاه الانساني النبيل الذي نقع عليه في بعض الكتابات، ونتبادله مع ثلة الاصدقاء الناجين من الطوفان ليس هو، بالتأكيد، الذي يسوق السياسات المسمومة بالاطماع وشهوة التسلط، وما يستتبعها عند الانكماش من صدمات وإحساس بالرعب والهلع والمزيد من الفوقية والعنصرية.

ويبدو لمتأمل السياسة الغربية في ازمنة مدّها كما جزرها، انها تشبه مزاج بروكست، قاطع الطريق، في بلاد الاغريق. الذي ينتهج ما يمكن ان يسمى بسياسة السيف والسرير، حيث يتحول السرير على يدي بروكست الى ما يشبه المشرحة. وتحكي الاسطورة ان قاطع الطريق، كان يمدد ضحاياه الذين يأسرهم على سرير، ثم يعمد إلى قص الفائض من اطرافهم، ليجعل الأجساد بحجم واحد، أما اذا كان الشخص أقصر من السرير فيعمد إلى مطّه لبلوغ هدفه اللعين، وفي الحالتين ليس امام الضحية، مع هذا الجلاد المهووس بمرض التماثل من خيار سوى الموت. والحكاية تشير بوضوح الى ان التشابه لا يتحقق الا عن طريق الموت. لان الاختلاف شرط من شروط الحياة، ولن تجد لسنة الاختلاف بديلا ناجعا او تبديلا ممكنا. ومن يسعى الى تنميط الحياة وجعلها شكلا واحدا سوف ينتهي به المآل الى ما انتهى اليه بروكست نفسه. لان تتمة الاسطورة تقول ان بروكست لفظ انفاسه الاخيرة على سرير التعذيب اياه. وهنا تكمن العبرة/الحفرة التي يحسن بالغرب ان يتفرسها جيدا قبل ان تفترسه.

[email protected] ے x|x|.