أمريكا تردع السودان من معسكرات تطوع للفلسطينيين!

TT

تحت عنوان: السودان ينفي لأمريكا عزمه تدريب متطوعين لمساعدة الفلسطينيين، جاء في الصفحة الأولى من «الشرق الأوسط» عدد الجمعة (4/26) «قالت وزارة الخارجية الأمريكية، إن الحكومة السودانية أبلغت الولايات المتحدة أنها لا تنوي إقامة معسكرات لتدريب مقاتلين متطوعين لمساعدة الفلسطينيين، بعد أن أعلن التلفزيون السوداني عن إقامة معسكرات في أنحاء مختلفة من البلاد لتدريب المتطوعين المستعدين لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وقال مكتب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إن الولايات المتحدة أجرت اتصالات مع السودان لاستيضاح الأمر»، وأضاف «أوضحنا أيضاً إذا كانت الحكومة السودانية جادة في تحسين مكانتها الدولية وتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، فإنه يتعين عليها أن تكف عن ترديد الشعارات التي تحرض على العنف. الحكومة السودانية أبلغتنا أنها ليس لديها أي نية لإنشاء معسكرات لتدريب المتطوعين»! لا شك أن هذا الموقف الأمريكي يكشف المدى الذي انحدرت إليه السياسة الأمريكية في توظيف كل إمكانات الدولة العظمى لحماية العدوان الإسرائيلي، وهو يسحق الفلسطينيين بهذه الوحشية التي تجد استنكاراً من كل العالم. وفي ذات الوقت يعكس الانبطاح الذي صارت فيه الحكومة السودانية سعياً لإرضاء أمريكا، بالرغم من تلقي الصفعات المتتالية، وكان آخرها القرار الذي يمنع رعايا السودان من دخول الولايات المتحدة ضمن رعايا عدد من الدول الأخرى، والذي وصفه مدير عام الإدارة القنصلية في الخارجية السودانية في مؤتمر صحافي بأنه كان رد فعل على موقف السودان من الشعب الفلسطيني، كما يعني أن أمريكا عاقبت السودان لكونه دعا لفتح معسكرات لتدريب المتطوعين، ومع ذلك فإن الحكومة السودانية انحنت أكثر فتراجعت عن فتح المعسكرات التي هي في الأصل دعا إلى فتحها قائد قوات الدفاع المدني، بينما أمر منع الرعايا ما يزال سارياً والسكوت ما زال متواصلاً.

وإمعاناً من الإدارة الأمريكية في إذلال النظام وكشف خنوعه، تطوعت الخارجية الأمريكية بالادلاء بتصريحات تبين استيضاحها وزجرها للنظام واستجابته لنصائحها وأوامرها. ولعلها قصدت أيضاً تنبيه الدول العربية الأخرى إلى أن تدريب متطوعين لمساندة الفلسطينيين من المحظورات سواء عن طريق المؤسسات الرسمية أو الشعبية. وهي بذلك تكون قد خطت خطوات اضافية في مسالك تصنيف المقاومة بحسبانها إرهاباً ما لم تتكاتف كل الدول العربية في وجه هذا التحدي الأمريكي المتصاعد في انحيازه لإسرائيل.

لقد سمعنا وشاهدنا أثناء انعقاد القمة العربية وبعيدها دعوات لفتح باب التطوع للانخراط في الانتفاضة الفلسطينية، بل ان أحد رؤساء الدول العربية كرّرها أكثر من مرة ووقتها لم نسمع أو نقرأ بيانات أو تصريحات من الخارجية الأمريكية تجعل من تلك الدعوة خطاً أحمر، أو تهديداً بعقاب تلك الدولة، ناهيك من ادراج رعاياها ضمن رعايا الدول الممنوع دخولهم إلى الولايات المتحدة، مما يعني أن الموقف الامريكي وقتها لم يبلغ هذه الدرجة من الانحياز إلى إسرائيل، أو أن أمريكا رأت أن تبدأ بالسودان باعتباره الحلقة الأضعف والذي أصبح طوع البنان!. وأياً كان الأمر، فإن الدول العربية جميعها مدعوة لمواجهة هذا الصلف الأمريكي الذي وصل حد التذمر من مجرد جمع التبرعات للفلسطينيين مع التنبيه للتأكد من أن هذه التبرعات لا تصل إلى من تصفها الولايات المتحدة بالمنظمات الإرهابية، علماً بأن معظم المنظمات المقاومة للاحتلال على لائحة «الإرهاب» الأمريكية! هكذا تبدو الولايات المتحدة أكثر سفوراً ووقاحة في شراكتها لإسرائيل إلى درجة تريد أن تلغي فيها كل الثوابت العربية في نصرة الفلسطينيين المظلومين بدءاً من إنهاء حالة الحرب، فحالة المقاطعة، مروراً بمنع التطوع، وصولاً إلى وقف التبرع دون أن تلزم إسرائيل بإنهاء الاحتلال، أو على الأقل بالكف عن استخدام السلاح الأمريكي في حصد أرواح وممتلكات الفلسطينيين مما لا نجد له تفسيراً إلا كونها متواطئة مع إسرائيل في ابتلاع فلسطين.

بينما كان الأجدر بها، أن تقف ولو للحظة متأملة وجوه أطفال فلسطين أمام ركام وأطلال مخيم جنين وهم يعيدون إلى الشاحنات المعونات الأمريكية رافضين الاستعانة بها على جوعهم ومرضهم محتجين على الدولة العظمى لأن السلاح الذي دك مخيمهم هو سلاح أمريكي، ولأن أمريكا كانت ولم تزل تمنح إسرائيل غطاء كاملا لكل ما ارتكبت من مجازر وتنكيل.

لقد كان منظر هؤلاء الأطفال مثيراً للغاية وموحياً للتفكير ومراجعة المواقف الأمريكية بسرعة من هذه القضية الإنسانية، وما لم تفعل الولايات المتحدة ذلك فإنها لن تجد لها صديقاً أو حليفاً على امتداد العالم العربي بأسره، فضلاً عن أن مصالحها لن تصاب بأي حال من الأحوال.

لقد أشرنا في مستهل وسياق هذا المقال إلى انبطاح الحكومة السودانية وإلى اعتبارها الحلقة الأضعف في نظر الولايات المتحدة ولهذا مارست عليها من الضغوط ما لم تمارسه على غيرها من الدول العربية بالنسبة للقضية الفلسطينية، وبالطبع لسنا بحاجة إلى التذكير بالكثير من العون الذي قدمته للولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر وقبله إزاء الإرهاب وبن لادن، وما إلى ذلك من مسائل كانت هي طرفاً فيها، مما دفع الولايات المتحدة لكي تأذن لمجلس الأمن برفع العقوبات عن النظام السوداني ومع ذلك أبقت عليه حتى الآن على لائحة إرهابها! وعلى الأرجح أنها دعمت إن لم تكن حرضت الدول الأوروبية على التصويت ضده في لجنة حقوق الإنسان. وعلى حد تعبير السودان، فإن الصوت الذي رجح الإدانة هو صوت يوغندا الذي لا تشك الحكومة في أنه كان مؤتمراً بأوامر أمريكية لأن الجيش اليوغندي وقتها كان يتوغل في الأراضي السودانية يتعقب المتمردين اليوغنديين بمباركة ومساعدة من حكومة الخرطوم ومع ذلك تصوت يوغندا ضد السودان ويكون صوتها هو الشاذ عن الكتلة الافريقية والمرجح لإدانة النظام! مع أن الكثيرين ينظرون لسماح الحكومة لتوغل الجيش اليوغندي باعتباره مخالفاً لحقوق السيادة إلاّ أنهم يرجحون أن الحكومة تنازلت عن ذلك الحق استرضاء للولايات المتحدة الأمريكية! بالطبع من حق المرء أن يتساءل إذا كانت الحكومة تستجيب لكل ما تطلبه الولايات المتحدة، فلماذا لا تجد المقابل الذي يتكافأ مع تلك الاستجابات، بل يبدو أنها تحصد الحصرم.. الآن يبدو ان النظام سيجد الدعم الأمريكي الذي انتظره طويلاً. فها هو تقرير المبعوث الرئاسي جون دانفورث يقول: إن تقسيم السودان إلى دولتين أمر غير واقعي وغير مثمر في إطار تحقيق السلام الدائم في المنطقة، وان الشعب السوداني سيكون في وضع أفضل إذا حصل على ضمانات سياسية ودينية وحقوق إنسان في إطار دولة موحدة.. وها هي الحكومة والحركة الشعبية والمعارضة إجمالاً، الجميع يرحب بما توصل إليه التقرير وهو يدعو إلى حكم فيدرالي بسلطات واسعة. بلا أدنى شك ليس هناك من هو اقدر من الولايات المتحدة لتنفيذ هذا المشروع، وفي مدى علمنا فإنه سيتحقق قبل نهاية هذا العام. ولعلنا لا نذهب بعيداً إذا قلنا إن الولايات المتحدة في مخيلتها الإبقاء على هذا الحكم مع اضفاء الصفة العسكرية الكاملة عليه في جانبيه الشمال، والجنوب، بحجة ضمان الاستقرار والاستمرار لفترة انتقالية كاملة يتثبت فيها شكل وأصل الحكم بعيداً عن الصراعات الحزبية والعقائدية وحتى يكون ركيزة قوية لها في منطقة شرق افريقيا، خاصة انه اكبر اقطار افريقيا مساحة وله حدود مع تسع دول. قد يبدو غريبا ان تشجع الولايات المتحدة الحكم العسكري لأنه يخالف عقيدتها والقوانين التي استنتها في العقود الأخيرة، لكن عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بدل كل شيء.. أو لم تتحالف إدارة بوش الابن مع نظام مشرف في باكستان وتحرص على استمراره؟.. أوليست لها يد في محاولة الانقلاب الفاشلة في فينزويلا لأن رئيسها لا يتماشى مع الخط الأمريكي وقد خاطبته كوندليزا رايس طالبة منه أن يستوعب الدرس! حقاً، إن كل شيء قد تغير، وعندما نقول عالم ما بعد 11 سبتمبر ينبغي ان نعي أن كل شيء جائز في عقيدة الولايات المتحدة الجديدة!، وموضوع السودان يحتاج إلى مقال آخر.