فرنسا تصحو على كابوس الشرخ الثقافي

TT

منذ إعلان ثورة 1789 الفرنسية، وبالأخص منذ قيام الجمهورية الخامسة سنة 1958 على يد الجنرال دوكول نامت فرنسا هادئة البال مطمئنة إلى ترسُّخ قيمها الجمهورية في أعماق شعبها. وهي قيم لا تختلف فيها فعالياتها السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وثوابت يرجع الفضل في تجذرها في ضمير الشعب الفرنسي إلى الإجماع الوطني عليها.

لكن فرنسا ليلة الواحد والعشرين من أبريل المنصرم نامت على كابوس مزعج أرَّقها وصَحَتْ لتجد نفسها تعاني من شرخ ثقافي مهدِّدٍ بالخطر. وسيظل يؤرِّقها ما لم تُعاف من بلواه. ولا أحد يستطيع أن يضرب لهذه المعافاة موعدا على الأقل في المدى المنظور.

ولم يكن الكابوس المؤرِّق إلا الانتصار المفاجئ الذي حققه في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية متزعم فرنسي كان يُسمع عنه أنه لا يؤمن بقيم الجمهورية الفرنسية موضوعِ الإجماع الوطني، ويدعو إلى العنصرية، ويرفض تجزئة المواطنة الفرنسية التي يرى أنها حق الفرنسيين الأصليين وحدهم، لا يصح أن يشاركهم فيها مواطنون أغيار، وينادي بمراجعة وضعية من مُتِّعوا بمنحة الجنسية بتجريدهم منها وترحيلهم خارج فرنسا. وفي سعي منه إلى الحفاظ على أصالة فرنسا وتميزها عرقيا وثقافيا عن أوروبا يعارض بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي ويطالب بانسحابها منه، كما يعارض إدماج الفرنك الفرنسي في الأورو، ويدعو إلى تمسك فرنسا بعُمْلتها واستقلالها، والتشبث بها دولةً ذاتَ سيادة غير منتقَصة سواء على صعيد ترابها الوطني أو على الصعيد الخارجي، ويحكم على النظام الفرنسي القائم بالفشل، ويجرِّم سياسيا الفعاليات السياسية، ويغلِّف مذهبه العنصري الرجعي بغطاء مكافحة الفقر، وإنصاف الطبقة المسحوقة، وإيجاد الشغل للعاطلين، وينادي بمناهضة العولمة متوحشة الليبرالية. وبعبارة جامعة يبشر هذا المتزعم الجديد بنظام فرنسي آخر ينسف النظام الحاضر من قواعده، إلى غير ذلك مما يحفل به تنظير نظامه من مبادئ متعارضة مع مبادئ النظام الجمهوري الديمقراطي الفرنسي، وذلك دون أن نغفل الإشارة إلى أنه فوق هذه المفارقات يعتمد استعمال العنف لنصرة مبادئ مذهبه الغريب عن أخلاقيات فرنسا ومُثُلها.

ولقد أظهرت نتائج الدورة الأولى للانتخابات الفرنسية أن متزعم هذه النزعة الجديدة (جان ماري لوبين) يقتعد المرتبة الثانية في هرم المرشحين الذين بلغ عددهم 16 موزعين بين اليمين واليسار. والأفظع من ذلك أنه يأتي بعد الرئيس «جاك شيراك» مباشرة، لا يفصلهما إلا ما يقارب نقطتين فقط، ويتفوق بنفس النسبة على زعيم الحزب الاشتراكي «ليونيل جوسبان». وهذا ما يعني أن هذه النزعة أخذت تتجذّر في القاعدة الشعبية وتكسب الأنصار. وأن نسبتها بلغت %20 من سكان فرنسا الحرة الديمقراطية. إنه إذن الشرخ الثقافي الذي ظل سرا مكنونا لم يكن يحس بخطره أحد إلى أن فضحته صناديق الاقتراع.

يمكن القول إن المنتصر الأكبر في الدورة الأولى كان هو زعيم الجبهة الوطنية (ماري لوبّين). وانتصار الرئيس «جاك شيراك» عليه بنقطتين لا يشكل لا انتصارا لشيراك، ولا هزيمة للوبين، بل انتصار الأخير على الأول وعلى سائر الفعاليات السياسية الأخرى، أي جميع مرشحي الفسيفساء السياسي من اليمين بمختلف لُوَيناته إلى اليسار بمختلف ألوان طيفه.

إن الأرض والسماوات في فرنسا تبدلت غيرَها مع هذه النتائج التي أظهرت أن «اللوبينية» تقدمت في فرنسا عما كانت عليه سنة 1974 عندما ترشح زعيمها لأول مرة للرئاسة ولم يحصل إلا على 0.74 بالمائة من أصوات الناخبين، لكنه في سنة 1988 حصل على نسبة 14.38، ثم في سنة 1995 بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها 15 بالمائة، وها هو يقفز إلى نسبة 17 بالمائة في الاقتراع الأخير.

لقد حصد الحزب الشيوعي في هذه النتائج هزيمة نكراء، واضطر زعيم الحزب الاشتراكي الوزير الأول في حكومة التساكن أن يصرح ساعة الإعلان عنها أنه استخلص نتائجها، وأنه قرر الانسحاب من العمل السياسي بعد نهاية مسؤوليته على رأس الحكومة، وشوهدت زوجته «سلفيان أغاسينسكي» وهي تذرف دموع الوداع.

وبرعت اللغة الفرنسية بما تملكه من قدرات الإبداع في تشكيل دلالة هذا الحادث الكبير فسمِّي زلزالا، وصدمة، وصعقة، وكابوسا. وقال عنه البعض إنه إصابة بمرض الانفصام، أو هو شرخ مجتمعي خطير. واعتبرتُه أكثر من ذلك فسميته شرخا ثقافيا وجعلتُ منه عنوان هذا المقال. وما أعتقد أنني بالغت في وصفه أو ضخّمت هول فظاعته. ويساعدني على ذلك التعليق المختصر الجامع الذي نطق به الرئيس الفرنسي جاك شيراك وأشار فيه إلى الخطر الذي يهدد فرنسا وقد بدا عليه من الشاشة هاجس الخوف على مصير القيم الجمهورية التي اعتبرها في خطر. ولا يعني ذلك إلا أن وضع هذه القيم موضع الإنكار والدعوة إلى مراجعتها بل تغييرها يشكل شرخا ثقافيا يحسن فيه أن تُسمَّى الأشياء بمسمَّياتها.

لقد فتح انتصار «لوبين» أعين الطيف السياسي الفرنسي على خطر الكابوس المزعج الذي عانت منه فرنسا يوم 21 أبريل، ويبدو أن تَبصُّرها لحقيقة الخطر الداهم بداية صحوة عميقة ستتنامى مع الأشهر المقبلة إلى حين استحقاق الانتخابات التشريعية، وسيتوحد فيها الصف الفرنسي لمواجهة التحدي الصعب. والبداية ستكون ـ لا محالة ـ من تكتل الفعاليات السياسية لتحقيق نجاح الرئيس الفرنسي في دورة يوم 5 مايو بأغلبية مريحة يُطرح السؤال الآن عما ستبلغ نسبتُها.

لقد أثبتت طرق استطلاع نتائج الدورة الأولى أن فن الاستطلاع لا يشكل علما من العلوم الدقيقة التي لا تخطئ، فما انتهت إليه الدورة الأولى من نتائج جاء مخالفا لما توقعته وسائل الاستطلاع التقنية، لذلك لا ينبغي من الآن الاطمئنان إلى طرائق الاستطلاع وأخذ توقعاتها على أنها حقائق مسلَّمة. وقد أخذت هذه الاستطلاعات تلوِّح إلى فوز الرئيس شيراك بأغلبية قد تصل إلى 80 بالمائة من الأصوات. ولا أعتقد ذلك، إذ لا تصح هذه النسبة إلا إذا أجمعت إرادة جميع المرشحين السابقين وأتباعهم على وضع ورقة شيراك وحدها في صندوق الاقتراع وتوحيد الاختيار على شخصه لقطع الطريق على خصمه. وهذا ما لا يُسنده دليل، لأن فرنسا تعاني من ظاهرة ملل الناخبين من ممارسة التصويت الذي ليس إجباريا في فرنسا، ومن ظاهرة فقد الحماس لتقيد الناخب المتحزب بتعاليم حزبه، ومن ظاهرة عزوف عدد من الناخبين عن الثقة في الأحزاب بشكل عام. وإذا ما تفشت ظاهرة الامتناع عن التصويت أو ظاهرة وضع الورقة البيضاء أو الأوراق الملغاة في الصندوق، فلن يكون ذلك إلا على حساب الرئيس «شيراك» الذي سيخسر في هذه العملية نسبة من الأصوات مما قد يجعله لا يتجاوز السبعين بالمائة، علما بأن أنصار «لوبين» سيصوتون له بنظام وانتظام وكثافة. ومع ذلك فلن تؤثر تعبئتهم على النتائج النهائية التي لن تكون إلا لصالح شيراك بكل تأكيد، لكن ليس بنسبة 80 بالمائة كما يقال.

منذ اللحظة التي أُعلِنت فيها نتائج الدورة الأولى ظهر فيها الرئيس شيراك مُثَقلا بأعباء مسؤوليته الجديدة متطلعا إلى أن يظهر في صورة شيراك آخر، ليست هي صورة زعيم تجمع سياسي فحسب، بل صورة القائد الوطني وارث عرش دوكول الذي يُعتبَر تجمعُ شيراك امتدادا له. لكنه في هذه المرة يريد أن يجعل من نفسه صورة طبق الأصل لدوكول المنقذ. وقد استوقفتني بالأخص فقرة من هذا الخطاب الذي حُرِّر بعناية فائقة موزونةٍ جملُها ونقطُها وفواصلُها. وجاء فيها: «إن فرنسا محتاجة إليكم أيها المواطنون والمواطنات. إني محتاج إليكم لتعملوا على تحقيق غايات الانتخابات الرئاسية». بهذه اللغة يتحدث شيراك القائد الكبير إلى شعب فرنسا، في تَماهٍ كامل بين فرنسا الأمة والشعب، وفرنسا الرئيس والقائد والزعيم. وهو ما كان خصوم الجنرال دوكول يعيبون عليه فيقولون عنه إنه يعيد مقولة لويس الرابع: «أنا هو الدولة»، ويتحدثون عن نظامه باسم الملكية الجمهورية.

سيشكل انتخاب الرئيس شيراك بالأغلبية الواسعة ـ لا محالة ـ دخول المعاناة الفرنسية بداية معافاة وصحوة، لكن ذلك لا يكفي لاقتحام خطر الشرخ الثقافي وهو مصدر الداء وموطن الوباء. ولا بد من إعادة النظر في التنظيم الحزبي بما يتحول معه إلى نظام الثنائية الحزبية المتألفة من تجمع يميني كبير، وآخر يساري كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية التي استقر فيها التنظيم على حزبين كبيرين وإن لم يكونا مختلفي الهوية، أو في نظام حزبين ونصف كما يوجد في بريطانيا العظمى. وهذه الثنائية الحزبية الكبرى ستكفل حصار النزعة اللوبّينية وتعزلها في خانة المنبوذ.

وما أظن أن الرئيس شيراك سينجح في إقامة تجمع شعبي كبير شبيه بتجمع الرئيس دوكول. ولن يسمح له خصومه بأن يكون «دوكول» الساعة لاختلاف الظروف الحاضرة مع ظروف الجنرال «دوكول» الذي دخل السياسة من بوابة المقاومة التي قادها لتحرير فرنسا من النازية وكاد تقديره يكون محل إجماع وطني. أما شيراك فله مع خصومه حسابات لن تُمحى في طرفة عين ولو قاد فرنسا خلال الولاية الثانية باسم شيراك الآخر، أو شيراك الجديد.