قوافل النور

TT

أنت تحلم وتخطط، وتريد، والله يفعل ما يريد، وقد حلمت وخططت منذ أمد للتواجد في الاسكندرية يوم الثالث والعشرين من ابريل (نيسان) للمشاركة في افتتاح مكتبتها العظيمة التي نجحت قديما في الحفاظ على عيون التراث الانساني، ونهضت حديثا من رمادها لتكون اضخم مكتبة للعصر الرقمي. لكن ما كل ما يتمنى الانسان يدركه، فقد سارت الرياح باتجاه سفينة الأشرار، والسفاحين، واعداء الثقافة والمكتبات، وتسببت مجازر السفاح ـ ما غيره ـ في تأجيل الافتتاح المنتظر لذلك الصرح الثقافي المميز الذي ساهمت فيه عقول بشرية من مختلف القارات.

ومع غصة تأجيل الافتتاح اعلن في يوم التأجيل عن مؤتمر لشباب العالم يعقد في المكتبة مطلع الخريف المقبل، وتحديدا في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) للبحث في حلول لخمسمائة مليون شاب في مختلف القارات سيعانون من الفقر والبطالة في عام 2012 بمجرد ان يكبروا قليلا وتتلقفهم دروب الحياة التي تختفي منها العدالة ويغيب عنها تكافؤ الفرص والمساواة.

ومرحى لهذا التوجه بغض النظر عن الافتتاح وعدمه، فهذا هو دور الكتب والمكتبات.. البحث عن حلول لمشاكل الناس والاسهام في التطور الانمائي والاجتماعي. فالمكتبة بالنسبة للمؤمنين بالمعرفة ودورها اكبر من مكان لاعارة الكتب واعادتها، واكثر من مبنى يضم الوثائق والاشرطة، والمخطوطات فقد كانت دور الكتب وستظل حاضنة التطور، والتقدم، وصانعة الاشعاع المؤثر الذي تبدأ منه مسيرة قوافل النور.

ان المكتبة لمن يعرف دورها واحدة من انجح وسائل التطوير والتغيير، فالتمرد يبدأ من الجامعات والثانويات ثم يكتسب وعيه في المكتبات ويتحول من صرخات احتجاج ضائعة الى اعمال مفيدة تمكث في الأرض، وتنفع الناس.

وحسنا فعلت مكتبة الاسكندرية باختيار الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) المقبل موعدا لمؤتمر الشباب، فهذا التاريخ الذي ارتبط بحادث يصعب ان تنساه الذاكرة الانسانية المعاصرة بحاجة الى من يكسر حدته، ومحاولات مصادرته لهدف واحد ووحيد، فالارهاب يأتي من الفقر، ويأتي من نقص المعرفة، ويتوالد من انعدام العدل وانعدام الفرص، وكلها مشاكل سيعاني منها شباب المستقبل كما عانى منها شباب الماضي والذكي من يحبط محاولات مصادرة المستقبل من اجل نصب المناحات على اطلال الماضي، ولا يوجد كالمعرفة ووسائلها من يستطيع تكريس هذا التوجه وهذا الدور.

ان تصدي المعرفة بمكتباتها وجامعاتها ومفكريها لمشاكل الفقر، والجوع، والايدز، والعنف والتدهور البيئي خطوة بالاتجاه الصحيح، وقد حان الوقت لتخرج المكتبات من دور الندوة والمحاضرة والامسية الشعرية لتدخل في أفق المشاركة في التخطيط المستقبلي والتلاحم الاجتماعي واقتراح المبادرات الجريئة التي تجد الحلول ولا تكتفي بأرشفة المشاكل، وتحليل نتائج الكوارث والأزمات.

وبمناسبة الافتتاح المؤجل لمكتبة الاسكندرية لا بد من تصحيح خطأ شائع يربط تلك المكتبة التاريخية بالاسكندر المقدوني. وهذا القائد له فضل بناء المدينة وعشرات الاسكندريات في مغرب العالم ومشرقه، لكن الفضل في انشاء مكتبة الاسكندرية الاصلية التي كانت من اكبر واهم مكتبات العالم القديم يعود الى شخص متنور من القرن الثالث قبل الميلاد اسمه ديمتري الفاليري. وقد ساعده على تنفيذ ذلك الطموح الخلاق مؤسس دولة البطالمة بطليموس الاول، وكانت ميزتها انها اول دار للمعرفة تقام خارج اشراف كهنة المعابد، ففي العصر الوثني كانت المعابد تحتكر العمل الثقافي الى ان جاءت مكتبة الاسكندرية ـ بحدود سنة 288 قبل الميلاد ـ لتحرر المعرفة من الكهنوت وتطلق الثقافة في فضائها الرحب لتتفاعل مع الناس وتؤسس لكل ذلك التطور الهائل الذي تدين به البشرية للمكتبة والكتاب.

وسواء افتتحت المكتبة اليوم او غدا فإن احدا لن يستطيع مصادرة دورها، فالاشرار والظلاميون يؤجلون عربات الخير والنور، ويؤخرون قدومها لكنهم لم يتمكنوا ابدا، وطوال تاريخهم الدموي من منعها من الوصول.