حق الفيتو

TT

حق الفيتو او (النقض) يعني ان العالم كله لو قال ان الشمس تطلع من مشرقها فيمكن لأحد اعضاء مجلس الامن الدائمين ان يقرر ان الشمس تطلع من مغربها بدون ان يبهت الذي كفر. وحق الفيتو او (النقض) يعني ان العالم مكون من طبقتين سادة وعبيد فمن اصل ستة مليارات من البشر يتكلم بالنيابة عنهم اقلهم، والحل والعقد بيد خمس دول يبلغ تعداد سكان اربع منها اقل من سكان الهند. وحق الفيتو ثالثا يقسم الكرة الارضية الى ناد يفرض الوصاية على العالم ويمكن لديناصورات القوة في هذا المجلس ان يلغوا ارادة كل العالم. وحق الفيتو رابعا هو ضد الديموقراطية فيمكن لأعظم قرار ان يعطِّله اي عضو، ما يقتل اهم آلية في الديموقراطية من جانبين: التمثيل الفعلي لسكان الارض واتخاذ القرار بأغلبية الاصوات. والعصابة الخماسية الدائمة فيه هي ألعن من حكومات العالم الثالث فلا أمل بتغييرها بموت او انقلاب ويمكن لأعدل قضية ان تموت في ساحتهم. «ألا ساء ما يزرون».

حق الفيتو بكلمة ثانية هو ضد المنطق. وعنصري ضد الانسانية. وضد الديموقراطية. وبتعبير (جودت سعيد) فهو حسب (الدين) الشرك بالله الذي لا ينفع معه أي عمل. «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».

وهو بكلمة أخرى آلة الشر في العالم. التي تعيق ولادة العدل. وتغتال ارادة العالم. وتمنع نموه على نحو سليم. وكما يقول (مالك بن نبي) ان ولادة هذا المجلس المشئوم بعد الحرب العالمية الثانية كانت ولادة كائن مشوه كما يحدث في التشوهات الخلقية، فيولد الطفل بهبل المنغولية. والعالم بعد الحرب الكونية ولد معتلا أقرب الى الهبل.

ولكن مع كل غرابة هذا الكائن الاسطوري فإن الاغرب منه ان كل العالم يعتبر ان مريض (المنغولية) احكم الحكماء. او يعتبر ان طبيعة الاشياء هكذا فيمكن للمرء ان يمشي على رأسه بدون ان يشعر بالدوار.

ويفرك الانسان عينيه مذهولا وهو يسمع السياسيين يدافعون عن مجلس الحكمة هذا ويقترحون توسيعه، فلا يصح ان يستأثر بالكراسي الوثيرة فيه الفرنسيون او الانكليز بل يجب ان ينضم لناديهم اليابانيون والألمان، ويتلمظ العرب بدورهم الى هذه الوجاهة بمقعد خاص.

وباستعراض بسيط لتاريخ هذا المجلس منذ ولادته النحسة وحتى الآن نرى اكبر الخاسرين فيه هم العرب. وكل القرارات الدولية لا تزيد في قيمتها عن الورق الذي كتبت عليه. ما لم تكن ضد الضعفاء. ومعه أمنت دولة مثل اسرائيل شر العقاب في الغابة الدولية المحروسة بطائفة من الغيلان بأنياب زرق.

وفي عام 1986 شن ريجان حربا على نيكاراغوا أوقعت «75 ألف ضحية منهم 29 ألف قتيل ودمار بلد لا رجاء لقيامته». لم تقصف نيكاراغوا واشنطن بالصواريخ او تفجر القنابل في بوسطن بل تقدمت الى محكمة العدل الدولية في لاهاي لمقاضاة امريكا. فحكمت في 27 يونيو 1986 لصالح سلطات ماناغوا وأدانت «الاستعمال غير الشرعي للقوة وطلبت من واشنطن وضع حد لجرائمها مع دفع التعويضات» وكان جواب امريكا: اذهبوا وبلطوا البحر.

قامت نيكاراغوا بعدها بالتقدم الى جمعية الامم المتحدة فلم يعترض سوى اثنين: مثل رجلين في بنطال واحد اميركا واسرائيل. ثم تقدمت الى مجلس الامن بطلب متواضع هو «تبني قرار يطالب الدول باحترام القانون الدولي» وكانت النتيجة ان القرار سقط بسبب حق الفيتو اللعين مجددا. يقول (نعوم تشومسكي): «فلم يعد في يد نيكاراغوا اي وسيلة قانونية تلجأ اليها فقد فشلت جميعها في عالم تحكمه القوة».

العالم كما نرى يعيش حالة استعصاء لا مثيل لها كما يقول راسل «في فراق بين الثقافة والعلم» مثل طائرة جامبو مصممة منذ عام 1948 بدون مخارج وأقنعة اكسجين وأحزمة أمان.

وهذا يعني بكلمة ثانية ان مشكلة التوحيد ليست تيولوجية بل سياسية. وهو الذي عانى من أجله الانبياء. ويظن البشر ان الأوثان هي من حجر او تمر ولا يخطر في بالهم ان تكون مؤسسات مثل (مجلس الأمن) او من البشر الذين ترفع اصنامهم احياء وامواتا.

والمشكلة هي ليست في الطقوس بل الحقائق. وباستعراض المقدسات في العالم العربي والاسلامي نرى بوضوح مثلث الوثنية مرفوعا في صور شاهقة لاشخاص فانين تدفعها ميزانيات دول تئن من العجز ما يذكر بعقيدة الكنيسة في مركب الأقانيم: الاب والابن والروح القدس.

ان هذا الكلام ليس للتجني او المبالغة. انه حقيقة مفزعة تخلع المفاصل من هولها. ينشأ عليها الطفل. وتخشع لها القلوب. ويرتجف لها الكبار. وتصرف الاموال بحجم الجبال لتجنيد الجواسيس والاستخبارات وفرق التعذيب لتكريس هذا السحر آناء الليل واطراف النهار للانظمة كي ترضى.

العالم الذي نعيش فيه كما نرى ليس واحدا بل ثلاثة: (1) عالم عربي يسبح في ضباب الوثنية السياسية مع حرص مواطنيه على القيام بالطقوس. اذا نظرت الى الفرد فيه لم ينقصه شيء ولكنه اجتماعيا يعيش في مصحة عقلية كبرى.

و(2) عالم غربي تخلص من الوثنية السياسية فنرى (مالورني) الرئيس الكندي الاسبق شخصا عاديا يمشي بين الناس بجانب طلبة جامعة (مك جيل) يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون. في مجتمع اقرب الى التوحيد من المجتمعات المتعارف عليها تاريخيا انها اسلامية. وهو ما يفسر فرار اهلها منها. فلن يفر مؤمن من (دار الاسلام) الى (دار الكفر) ما لم يشعر بالأمان بين الكفار اكثر من المسلمين. ولكن لمن تقرع الاجراس؟ فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء اذا ولوا مدبرين.

وهو كذلك يفسر حالة الذل المصبوب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس، فإنه «لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت» كما جاء في دعاء القنوت. فلا يعقل ان يعز الله اليابانيين ويذل العرب لولا سر خاص يبثه الدعاء. ولكن قص الأنف بالمقص اسهل من استيعاب هذه الحقيقة.

وأما (3) النوع الثالث فهو (الأمم المتحدة) الذي تحول الى مغارة لصوص يصادر فيه الاقوياء العدل بحق الفيتو (النقض) فينقضون بنيان العالم، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا. «تتخذون ايمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة».

ومن الغريب ان كل العالم ساكت عن هذا المنكر ولا يطالب بإغلاق هذا النادي الاجرامي بل يريد المشاركة فيه بزيادة مقاعد الجبارين، بدل الامساك بعصا النبوة لتحطيم الاصنام كما فعل ابراهيم.

وحل مشكلة العدل في العالم لن تكون إلا بالاسراع بتشكيل برلمان دولي كما في البرلمان الاوروبي حيث يجتمعون ليس تحت شعار المانيا فوق الجميع بل المانيا مثل الجميع، اي على كلمة سواء بينهم ان لا يتخذ بعضهم بعضا اربابا من دون الله.

وهذا المشروع ستقف ضده ديناصورات العهد الجديد. ولكننا تعلمنا من تاريخ الارض ان الديناصورات انقرضت بفعل كارثة كونية. وقد يتورط الكون في حرب نووية قبل ان يتخلى الكبار عن مقاعد الجبابرة في العالم واعتبار انفسهم بشرا ممن خلق. وبغير هذا المخرج فإن طائرة الجنس البشري ستبقى مخطوفة بأيدي ارهابيي مجلس الأمن عفوا مجلس الرعب والظلم.

تحكي القصة ان قرية شيلم وقعت بها جريمة فأحضر الفاعل الى القاضي فحكم عليه بالاعدام. ولكن اهل شيلم صاحوا بصوت واحد ايها القاضي: انه الاسكافي الوحيد في القرية. التفت القاضي اليهم وقال معكم الحق يا أهل شيلم الاعزاء انه من الظلم حقا ان نحرمكم من الاسكافي الوحيد في القرية. هاتوا أذن اثنين ممن يركبون قرميد السطوح فأعدموهما بدلا عنه. وهذا ما تفعله امريكا اليوم مع الاسكافي شارون واعدام اهل جنين في ربيع 2002 وهذه هي عدالة شيلم والكونجرس الامريكي.

[email protected]