الأمية العربية بين فك الحرف والفتك بالمعنى

TT

واحد من بين كل ثلاثة أطفال عرب لا يذهب إلى المدرسة، والعدد مرشح إلى تصاعد. والذين يحظون بمقعد مدرسي يتعلمون فك الحرف لكنهم لا يستطيعون بالضرورة بلوغ مستوى فك المعنى، رغم الذهاب والإياب والمواظبة والعناء. فالأميون العرب الذين تترواح أعدادهم بين سبعين مليوناً ومائة مليون بحسب الإحصاءات ليسوا، لسوء الحظ، لب المشكلة. فالأدهى من أن تكون أمياً، وتعرف أنك أمي ويعرف الآخرون ذلك، فيتخذون التدابير من أجلك أو الإجراءات ضدك، هو أن تفترض أنك متعلم، وتقنع بقية من حولك، في ما أنت في جهالتك من الضالين عن سواء السبيل.

كل منا أمي في مجالات كثيرة ومقصر في نواحٍ عديدة، والعلم بحر ـ كما يقال ـ لكن مأزق العرب بأمييهم وغالبية متعلميهم أنهم يتخلون عن مصارعة لجج المعرفة ويكفرون عن تقاعسهم، بالاستجمام على شواطئها. وقد توافق اليابانيون على أن الأمي بينهم هو من لا يجيد استخدام الكومبيوتر، وذلك بعد أن قضوا على الأمية بينهم، عن بكرة أبيها. وما نزال من طرفنا، نرتاح لما تقدمه لنا منظمة اليونسكو من إحصاءات مخيفة لكنها لا تخيفنا حول الأعداد الهائلة لأميينا الذين يحصون تبعاً لعجزهم عن قراءة الحروف، فيما يسقط من الإحصاء ـ وهنا بيت الداء ـ عشرات الملايين الذين لا يختلفون عنهم كثيراً حين يفلحون في تهجّي الجمل لكنهم لا يفقهون شيئاً مما يقرأون. فهل يكفي أن تقرأ أخبار الفنانين من جريدة وتتلعثم أمام أصغر مقال تحليلي كي تتبرأ من الانتماء إلى كهوف الأمية؟ يشكو الناشرون من مقاطعة الكتاب ونبذه، لكن هل يجيد الناس قراءة الكتب ليشتروها؟ وهل الإقبال على كتب الطبخ والأبراج هو مجرد ميل اختياري أم هي بأسلوبها السهل المبسط تكاد تكون من بين القليل والنادر من الإصدارات الذي يتناسب ومستوى الاستيعاب لغالبية ساكتة ومسكوت عنها، لأنها تخجل من نفسها، ويخاف القيمون على الأمر من افتضاح شأنها وشأنهم؟ وسط هذه التراجيديا العربية المعاصرة التي تفوقت بأشواط على التراجيديات الإغريقية، ابحث عن المدرسة تجدها في كل حي وعند كل مفترق، إنما ما نفعها، ما دامت في خمول لا ينبت عشباً ولا يخصب شجرة، ليس من التشاؤم بمكان وصف واقع الحال بأنه أشبه بدوامة، منذ أن تخلت وزارات المعارف رحمها الله، عن اسمها الذي كان يشي بطموح جليل، واكتفت من مهمتها بـ«التربية» فما عدنا نعرف على أي أسس تربى أجيال تجهل لغتها ولا تتقن لغة غيرها، وما هي الأهداف، غير المعلنة، من توزيع الشهادات وتحميلها لمن يريد دون أن يطلب المفيد.

والأمية، بمعناها الحرفي التقليدي الشائع أو الحقيقي النافر الذي أطلقت عقاله المدرسة بمعاضدة الجامعة، هي المحور الذي تدور في فلكه السلوكيات الحياتية والعجلة اليومية. فالتلفزيون يكتفي بالمسلي الظريف والخفيف لأن رفع العيار كفيل بـ«تطفيش» المشاهدين وخسارة المعلنين. والصحف التي كانت منذ عشرينات القرن الماضي، الرحم الذي احتضن نصوص كبار الأدباء والمفكرين قبل أن تجمع في كتب وتتحول إلى مراجع للدارسين، هذه الصحف ما عاد قراؤها يحتملون المطولات ويصبرون على شقي المفردات، وهي لا تملك إلا النزول إلى ما يطلبه الجمهور.

ومن باب المسايرة ومراعاة المصلحة فإن آخر معرض للكتاب، شهدته مدينة طرابلس (شمال لبنان) وأنهى أعماله يوم الأحد الماضي، كان من الغرابة بمكان، حيث أن من يريد البحث عن كتاب فيه تجده يقطع المسافات طولاً وعرضاً قبل أن يعثر عليه محشوراً بين أجنحة الملابس والألعاب والتحف واللوحات وأجنحة الحركات الشبابية والجمعيات الخيرية ومؤسسات الإغاثة كالصليب الأحمر وما أشبه. والأنكى من ذلك، أن المساحات الكبيرة المقتطعة من قبل الجامعات، بقيت فارغة من منشوراتها، فكأنما أخفتها عن عمد، لتصطاد غفير الطلاب، وتوحي، بلا شعور بالذنب، أن الجامعة شيء والكتاب شأن آخر. الكتاب في معرضه السنوي لا يجرؤ على لعب دور البطولة الأولى طالما أن هناك من يقول: «ما جاءنا الخراب إلا من الكتاب». أوليس من يقرأ معقداً وغريب الطباع؟ فلماذا لا ينزوي وينسحب هو وكتابه من ساحة الأسوياء؟! عبثاً ندّعي النهوض والمدرسة العربية هذا نتاجها والجامعة تخاف من عرض كتابها حفاظاً على سمعتها. فالدراسات واضحة بهذا الخصوص، والدول الأكثر غنى ونمواً هي الأفضل علماً وأقل أمية. فلماذا نعد أنفسنا بجنان المعرفة ونحن نعرف اننا إنما نحضّر لدخول المجهول؟ هل يعقل أن تسأل تلميذة في سنتها الثانوية الأخيرة لماذا يتنازع الفلسطينيون والإسرائيليون وتستفهم بلا حرج: «صحيح، خبرّنا يا أستاذ هيّه الأرض لمين». فتاة أخرى تقول انها تكتشف حكاية فلسطين هذه للمرة الأولى ولم تكن تعرف بوجود اليهود فيها. فهل نملك الشجاعة الكافية ونشكر السيد شارون لأنه علم أبناءنا، بمجازره الأخيرة، ما عجزت عنه وزارات التربية. وعلى هذا الوزن من الأمية فتاة جامعية تعرف دبي بفضل التلفزيون لكنها لم تسمع في حياتها عن دولة اسمها الإمارات العربية المتحدة. وللتوضيح فقط هؤلاء ليسوا أميين بالمعنى المتداول، بل نخب المستقبل، وعلى أعتاب التخرج. والجيل الجديد في بلاد الأرز، بعضه لم يسمع عن الحرب اللبنانية اللعينة التي ما تزال آثار صواريخها موجودة على المباني، وذيولها الاقتصادية تسحب كسرة الخبز من فم المواطن. وما نذكره هنا ليس اختراعاً وإنما التقطناه من أفواه الناس، وهم إذا ما سئلوا أو حتى تركوا على سجيتهم يقولون ما تشيب له الرؤوس. فإذا كان الإنسان العربي يقرأ ما معدله نصف ساعة في السنة بحسب دراسة نشرت منذ سنتين فمن الصعب أن نتخيله يعرف ما يدور حوله بوعي يبشر بخير وقد أغلق باب المعرفة بالصدود.

وبالتالي فالفرصة متاحة لإسرائيل، وعلى الأرجح لزمن طويل، كي تفرش بساطها على المساحة التي تشتهي وأن تمد رجليها وتستريح، رغم تفاؤل الحكومات، التي لا تفاخر بشيء كما تنتشي حين تتحدث عن إنجازاتها التعليمية التي تفتك بالأمية. إنما أية أميه يقصدون؟ وكيف بأقلية قليلة من المثقفين أو أشباه المثقفين يكتفون؟ أليس اليابانيون على حق حين يقولون: «ما قيمة سفينة الدولة إن لم نكن جميعنا على متنها».

[email protected]