حديث الشفافية

TT

اصبح معتادا استخدام اسلوب التهجم في تعليقات الكثير من المعلقين والمثقفين العرب على كلمات وتعبيرات مثل، الشفافية او الاصلاح ومحاولة تصوير هذه التعبيرات على انها مطالب لقوى غربية تحاول ليّ ذراعنا من اجل تنفيذ اهداف خاصة بها، وذلك في محاولة لترسيخ مفهوم سلبي عن هذه التعبيرات في الذهن الشعبي، ولا بأس ان يرتبط ذلك بشعارات وطنية عن التصدي لمحاولات الاختراق والتبعية .. الى اخر القائمة المعروفة.

وقد نجحت هذه الحملات في جعل كلمة مثل، العولمة تبدو كاخطبوط يريد مص دماء الناس لدرجة ان الجميع من مختلف التيارات يهاجمها ليل نهار بدون تعمق حقيقي في ماذا تعني، او ما إذا كانت مسألة اختيارية، ام انها ظاهرة ترتبط بتطور الانسانية تفرض تحديات ينبغي على الجميع التعامل معها.

صحيح ان هذه التعبيرات في غالبيتها هي نتاج الفكر الغربي في الاساس، وهي ترتبط بمفهوم المجتمعات هناك لطريقة الحياة وتنظيم المجتمع وشؤون الناس، وقد تستخدم في بعض الاحيان من اجل تحقيق اهداف سياسية، او مصالح وضغوط معينة، لكن هذا ليس مدعاة لرفضها في المطلق واعتبارها رجساً من عمل الشيطان.

فالشفافية هي تعبير كما توحي الكلمة يهدف الى خلق حالة وضوح يستطيع ان يرى بها الجميع الصورة على حقيقتها بدون وضع رتوش على الحقيقة، وهو تعبير يستخدمه الاقتصاديون والسياسيون، وهو مهم في حالة الاقتصاد والاعمال حتى يعرف اصحاب الاعمال والمستثمرون الوضع على حقيقته بما يمكنهم من اتخاذ قرارات سليمة، ويعرف كل من يتعامل مع الاقتصاد انه كلما ارتفعت نسبة الشفافية في اقتصاد ما ارتفعت درجة ثقة المستثمرين فيه وزاد اقبالهم واطمئنانهم على اموالهم فيه. وسياسيا فان الشفافية مفيدة لصاحب القرار حتى يتخذ قراراته بشكل سليم، وللجهات المسؤولة عن المحاسبة حتى تستطيع ان تقوم بتقويم ما تراه خاطئا او ضارا.

ولا تحتاج كلمة الاصلاح الى تفسير كبير، وكل المجتمعات تحتاج الى اصلاحات بشكل دائم، لان ما هو بشري يكون دائما ناقصا والتجارب الانسانية تصاحبها دائما ايجابيات وسلبيات، والمجتمعات الحيوية هي التي تستطيع ان تقوم بمراجعات مستمرة لمسيرتها بهدف توسيع الايجابيات وتقليص مساحة السلبيات.

ونأتي الى اخطر ما في قاموس التعبيرات الجديدة التي دخلت حياتنا، وهي العولمة التي تهاجم لدينا ليل نهار، وكأن المطلوب ان يغلق كل مجتمع بابه على نفسه ليرتاح من الرياح القادمة من الخارج، ويتناسى مهاجمو العولمة انها حتى لو كان بعض الثقافات يريد استخدامها لمصلحتها ـ وهذا مشروع ـ فهي ليست اختيارا وانما هي ظاهرة مصاحبة للتطور في التكنولوجيا والاتصالات والمواصلات والوعي الانساني الذي جعل الجميع يريدون ان يعرفوا عن الاخرين اكثر.

لذلك فان رفض الظاهرة لا يعني سوى الموت، بينما المنطق يقول انه لا بديل عن التعامل مع الظاهرة مثلنا مثل بقية شعوب العالم نتأثر ونؤثر فيها بقدر ما نملك من امكانيات. وهي في بعض جوانبها تفرض احتكاكات لانها تضع الحضارات والثقافات في مواجهة بعضها بصورة مباشرة، نتيجة السهولة التي اصبح فيها الشخص العادي يعرف في نفس اللحظة ما يحدث في مكان بعيد عنه جغرافيا في قارة اخرى على بعد آلاف الكيلومترات، وبالتالي فهو في وعيه مضطر الى ان يتخذ موقفا او يكون صورة عما يجري هناك.

لكنها في جانب اخر تفرض على المجتمعات تحديث نفسها لان قدرتها في التأثير في الظاهرة، والاستفادة مما تتيحه لها من فرص ترتبط بقدرة اي مجتمع على المنافسة مع الاخرين وتعظيم قدراته، وهناك مثل شائع يقول، ان نزول البحر افضل من الوقوف على الشاطئ في تعلم العوم.