لوبن.. بسمارك الفرنسي

TT

قدم المرشح المتطرف لوبن لفرنسا خدمة عظيمة دون ان يدري، فهذه الأمة الفرنسية الكبيرة نسيت خطر التطرف، وتناست ان التركيبة الاجتماعية للمجتمع الفرنسي تغيرت الى درجة مذهلة، وان المجتمع الفرنسي اصبح نوعاً من الفسيفساء العرقية والدينية، وراحت في خضم التحولات الكبرى للمجتمع الفرنسي تركن الى نسيان خطر التطرف والعنصرية حتى جاء لوبن ببرنامجه المتطرف ليعيد توحيد المجتمع الفرنسي على قواعد الجمهورية الخامسة، وذكّر الناس ان فرنسا بلد الحريات والديمقراطية، وانه لا حياة للمجتمع الفرنسي، ولا استقرار للدولة الفرنسية دون احترام التعددية والانفتاح السياسي والاجتماعي، واحترام كل الاجتهادات والاصول العرقية والدينية.

كل رؤساء فرنسا السابقين لم يحصل احد منهم على اكثر من نصف اصوات الناخبين الفرنسيين، ولذلك فان تصويت هذه الاغلبية الساحقة لشيراك ليس تصويتاً «مع» شيراك ولكنه تصويت «ضد» الفاشية والعنصرية الجديدة والتطرف.

فرنسا قامت بعملية تطهير ذاتي، ومارست اعادة ترتيب روحها وعقلها، وصحت من غفوة ربما كانت ستطول لو ان لوبن لم يرشح نفسه، وربما كانت نار العنصرية تحت الرماد تكبر بهدوء وتلتهم مبادئ الجمهورية وقضايا الحريات وحقوق الانسان، لكن لوبن فعلها وتحدى المجتمع الفرنسي واعلن دون ان يدري بأن فرنسا لا بد لها من ان تتحد ضد التطرف، وان تتصالح مع ذاتها، وان تقوم بعملية نقد ذاتي، وهو ما جعل الاقبال على الانتخابات كبيراً، والتصويت ضد الفاشية كبيراً ايضاً.

في خضم هذه التحولات تبدو الجالية العربية الكبيرة في فرنسا معنية بالتحول الى رقم صعب لا يمكن تجاوزه، وهذا يتطلب تنظيم الصفوف، والتوقف عن نقل الخلافات العربية الى المهجر، والقيام بحملة توعية كبيرة لاقناع الفرنسيين من اصل عربي بالتصرف كمواطنين فرنسيين جيدين، يحترمون انفسهم وعملهم، ويحاربون كل الظواهر السلبية المتفشية بين الجالية العربية التي تسيء الى سمعة هؤلاء وتقلل من دورهم الاجتماعي والسياسي وتعطي فرصة للمتطرفين للاساءة اليهم.

فرنسا دولة اوروبية رئيسية، ونجاح العرب الفرنسيين في توحيد صفوفهم سيساعد القضية العربية التي تحتاج الى مواقف اوروبية متوازنة، وتساعد فرنسا نفسها من خلال تقوية المصالح المشتركة بينها وبين الدول العربية.

لقد لعب لوبن الفاشي في فرنسا دور بسمارك الالماني، في عملية توحيد حقيقية لكل القوى في اليمين المعتدل والوسط واليسار في مواجهة التطرف، وهي عملية لم يكن لها ان تحدث لولا بسمارك الفرنسي الذي فعلها دون ان يدري.