السودان والدوران في الفلك الأمريكي

TT

اجاز الحزب الحاكم في السودان توصية بتعديل الدستور لالغاء المادة التي تقيد الفترة الرئاسية بدورتين (10 سنوات) حتى يتيسر للفريق البشير الاستمرار في رئاسة الجمهورية مدى الحياة!، وكذلك اجاز توصية بقيام مجلس للشيوخ بجانب المجلس التشريعي. ومن المستبعد طبعا ان يرفض البرلمان التوصيتين لأنه برلمان الحزب الحاكم! ومعظم اعضائه فازوا بما اسموه «بالاجماع السكوتي»! وفي الغالب الاعم ان الاعضاء القياديين في الحزب هم نفسهم الاعضاء في البرلمان ومنهم من قاموا بصياغة التعديلات المطلوبة. لكن وجه الغرابة ان الدستور الذي يراد تعديله ليس دستورا موروثا عن عهود سابقة انما هو دستور وضعه وأقره هذا النظام وقبل سنوات معدودة، وقد لا نكون مبالغين اذا قلنا ان ذات الشخصيات التي باركته واجازته هي نفسها التي بدلت رأيها وعمدت الى تعديله، الفارق الوحيد انهم عندما وضعوا دستورهم حدثوا الناس عن الحكمة من وراء تقييد الترشيح للرئاسة بدورتين بأن ذلك يحول دون ان تكون الرئاسة حكرا لشخصية ما مهما كان وضعها حتى لا تستبد وتطغى، مستشهدين بأصول دستورية عالمية عريقة وتجارب راسخة. اما الآن فلم يتحدثوا عن عدم ملاءمة تلك التجربة التي لم تمارس اصلا، كما لم يدلونا عن اسباب او ميزات نسخها. ربما من باب التواضع استحوا من القول: ان السودان لم ولن يشهد من هو افضل واحق بالرئاسة من الفريق البشير ولذلك اخطأوا في حق السودان وفي حق الرئيس عندما قيدوا في الدستور الفترة الرئاسية بدورتين، وكأنهم لم يهتدوا الا مؤخرا الى الحكمة القائلة (من القصر الى القبر) وليس هناك في النظم العسكرية رؤساء سابقون وانما راحلون فقط!.

وتتعدد أوجه الغرابة والتساؤلات، وأولها ما سر العجلة في اختيار هذا الوقت بالذات، علما بأن الدورة الرئاسية الثانية للبشير ما تزال في منتصفها مما يعني ان عنصر الزمن ليس ضاغطا، وكذلك ليس مناسبا لأن مثل هذا التعديل يتعارض مع مسالك الوفاق الذي ما يزال الحوار حوله يدور صعودا وهبوطا مما يشي بأن الحكومة لا تعيره اهتماما جادا. اكثر من ذلك ان القوى الجنوبية المتحالفة مع الحكومة أكدت رفضتها لتلك التعديلات ودعا الناطق باسمها: الحكومة الى ممارسة الشفافية في القضايا الوطنية الكبرى والتي تعتبر شأنا قوميا وليس حزبيا وطالب بضرورة توسيع المشاركة لكل التيارات السياسية حتى يتسنى الخروج من الازمة السودانية، وحزب الامة بلغ تبرمه المدى الذي هدد فيه بالكشف عن اسرار ما وصفه بنقض الحكومة لعهودها معه، مرورا بحزب الترابي العراب السابق للنظام الذي اعتبر مجمل التعديلات تركيزا للسلطات في يد البشير، منوها بأن مجلس الشيوخ الذي سيعينه البشير سيكون خصما على المجلس النيابي المنقوص الصلاحيات، وصولا الى التجمع المعارض الذي لا يعترف اصلا بالدستور ويطالب بوضع دستور جديد يتواصى عليه الجميع.

حقا يحار المرء في ادراك الاسباب التي دعت النظام الى الاقدام الى هذه التعديلات الآن: هل هناك جهات خفية تدفع باتجاه ان تركز كل السلطات في يدي البشير تحسبا لتدبير ما قد يطال حتى الذين معه؟ ام انه بعد رئاسة ستكمل اربعة عشر عاما الشهر القادم احس بأنه بلغ مرحلة الرئاسة مدى الحياة فاستشعر المتزلفون بحاستهم الخاصة امنياته فتسابقوا الى الفوز بقصب السبق؟، ولعل الانتهازيين ارادوا ان يصطادوا كل العصافير بحجر واحد فينالوا رضاء الرئيس ويباعدوا بين النظام والوفاق صونا لمواقعهم لأن السودان ومصالحه خارج اطار اهتماماتهم! على كل حال ستظهر الايام ما كان خافيا.

تحدث كل هذه المظاهر الانصرافية في وقت تمر فيه البلاد بمقدمات لأحداث كبيرة منها مترتبات اتفاق سلام جبال النوبة الذي هندسته الولايات المتحدة الامريكية والذي تحيط به الكثير من الشكوك حول مدى التدخلات الامريكية التي بلغت حد ارسال قوات عسكرية الى تلك المنطقة والتي وصفت بقوات التدخل السريع على حد وصف الصحف السودانية، وقيل ان فريق المقدمة من مهامه نزع الالغام من منطقة جبال النوبة!، ونسبت تلك الصحف الى بيان من الخارجية الامريكية «أكد ان تلك العمليات ستسهم في انجاح اتفاق سلام جبال النوبة والى ان نصف قوات التدخل السريع الامريكية موزع في السودان فيما يعمل النصف الآخر في سريلانكا». وطالما وصلت قوات التدخل السريع السودان وطالما الولايات المتحدة تعد حلا لمشكلة الحرب في الجنوب فإن امورا كثيرة يجب ان يتنبه لها الجميع، خاصة ان الحكومة تبدي ترحيبا وتلهفا على الدور الامريكي، لكن ما يلفت النظر ان النظام الذي ابدى قبولا اوليا بما تضمنه تقرير المبعوث الرئاسي الامريكي من حرص على وحدة السودان عاد فأبدى اعتراضه على الجزئية الخاصة باقتراح تقاسم الحكومة مع الحركة لعائدات النفط مقابل ان تتراجع الحركة عن تهديداتها بمهاجمة حقول الانتاج. وقال نائب البشير علي عثمان في مؤتمر صحافي في الخرطوم: ان الحكومة ترفض هذا الاقتراح لأن النفط ملك الشعب وللجنوب فيه نصيب غير قليل. وقال: ان الحكومة لا تمانع في منح الجنوب وضعا خاصا في العائدات وهو امر مقبول ويمكن ان يطرح للمناقشة.

ان من يتأمل في مغزى الاقتراح، وفي مضمون ما قاله النائب الاول للبشير يدرك دون كبير عناء ان قسمة السلطة بين النظام وحركة قرنق يمكن استشفافها من مدلول الاقتراح لأن قسمة الثروة هي النتاج الطبيعي لقسمة السلطة، كما ان المتأمل لما جرى على لسان نائب البشير لا يجد في الرفض الا استبطانا للقبول فهو يقبل مبدأ القسمة ويريد التفاوض على النسبة التي يومئ بأنها لن تكون قليلة في صالح الحركة. ولعل تحليلنا هذا ليس بعيدا عن ما لمحنا اليه في مقالنا السابق من ان الصفقة التي تعد لها الولايات المتحدة لحل ازمة الحكم في السودان تقوم بصريح العبارة على فكرة لقسمة السلطة بين النظام والحركة الشعبية ولهذا لا يستبعد ان تكون التعديلات الدستورية نفسها ليست بعيدة عن هذه الصفقة او بمثابة تطمين او ترويج لفكرة استمرارية النظام الشمولي، شمالا وجنوبا!.

ولعل مما يعزز هذا التوجه الفكرة التي تبناها الرئيس الكيني أراب موي وهي عقد قمة تضمه والرئيس المصري والرئىس البشير وجون قرنق لحل القضية السودانية في اطار المبادرتين فمثل هذه القمة تحصر السودان في البشير وقرنق وتستثني المهدي والميرغني وكل قوى المعارضة الأخرى شمالية وجنوبية مما يعني تجاهل كل هذه القوى لصالح المشروع الامريكي اذا جاز التعبير!.

واذا كانت مسألة قسمة النفط قد القت المزيد من الضوء على ملامح المشروع الامريكي فإن النفط نفسه هو الاكثر اغراء للتسارع من جانب الولايات المتحدة، فهي تحرص عليه بحسبانها اول من اكتشفته وبدأت في استخراجه قبل مجيء هذا النظام لكن النظام حاول تمكين الصين منه وهذا ما يزعجها ويجعلها تحاول استرداده وابعاد الصين من ان يكون لها موقع بهذه الاهمية وفي بلد استراتيجي ايضا مثل السودان وهي قريبة من النجاح فيما يبدو.

ويبقى السؤال: ماذا ستفعل القوى السياسية السودانية الاخرى التي تجد نفسها اذا صحت هذه الفرضيات خارج اطار اللعبة السياسية؟.. هذا سؤال ستجيب عليه الايام القادمة.