رؤية من مصر

TT

في هذه الظروف المأساوية التي يعيش فيها شعب فلسطين نجد أن بعض ما يدور في مصر يحتاج وقفة بحث. لأن دور مصر لا يمكن أن يغيب عن أمتها العربية ولأن أمنها القومي لا يقف داخل حدودها وانما يرتبط أساساً بما تدبره الحكومة الاسرائيلية من خطط استيطانية وتوسعية.. ولأنها تواجه ظروفاً فرضتها عليها المعاهدة المصرية الاسرائيلية التي وقعها أنور السادات في مارس (آذار) 1979 والتي انفردت بها عن سائر الدول العربية حيث أقامت علاقات ديبلوماسية بين القاهرة وتل أبيب ووثقت علاقتها مع أمريكا التي تحصل منها على اعانة سنوية تقترب من ملياري دولار.. وأخيراً لأن الحالة الاقتصادية المثقلة بارتفاع الأسعار والديون الخارجية والداخلية وهبوط قيمة الجنيه تحتاج الى جهد وتركيز للابتعاد عن دائرة الخطر.

أول الظواهر التي تستلفت النظر في مصر هي المشاعر الملتهبة المؤيدة لنضال شعب فلسطين والتي شملت جميع الطبقات والاتجاهات والتي كشفت المعدن الحقيقي لشعب مصر. وهو موقف ليس جديداً تماماً لأنه يقترن بتوقيع المعاهدة المصرية الاسرائيلية التي لم تحقق إلا سلاماً بارداً رفض الشعب المصري فيه أن يستجيب الى نداء التطبيع، وربط مصيره مع أمته مناضلاً من أجل تحقيق سلام شامل وعادل، وخاصة بعد مؤتمر مدريد الذي قبلت فيه الدول العربية مبدأ المفاوضات الثنائية على أساس تطبيق قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، وجعل السلام خياراً استراتيجيا يتحقق مع تحرير الأرض المحتلة.

وهنا لا بد من الاشارة لموقف الشباب والجيل الجديد الذي طالما اتهم ظلماً بأنه بعيد عن الانفعال الوطني والانتماء القومي، وأنه منشغل بهموم حياته اليومية. فقد أثبت حضوره وحيويته في شتى المجالات سواء في المظاهرات أو الندوات أو الاعلان عن رغبته في التطوع للقتال مع أبناء شعب فلسطين. وهو ما نفذ فعلاً بصورة فردية كان يمكن أن تكون عامة لو سمحت بذلك السلطات التي حرصت على تفادي الأخطار التي قد تنجم عن مثل هذا الموقف في وقت جمح فيه جنون حكومة شارون الى ارتكاب أفظع الجرائم وأبشعها. وفي وقت ارتفعت فيه بعض التصريحات الاسرائيلية المستفزة والمثيرة للغضب، مثل تصريح بنيامين بن اليعازر الذي قال فيه ان مقاومة الارهاب لا تقف عند الحدود الجغرافية، ودعوة ليبرمان الى ضرب السد العالي، وتصريح المسؤولين في حزب المفدال الذي انضم أخيراً لتحالف الليكود في الوزارة الاسرائيلية والذي طالبوا فيه بأن تخصص مصر أرض سيناء لاقامة الفلسطينيين مما دفع وزير الخارجية أحمد ماهر الى الرد عليه بحسم قائلاً بأنه فكر حشاشين يستحق قائله العقاب. وهذه التصريحات تدل على وجود نوايا اسرائيلية متطرفة تهدف الى التوسع الاستيطاني، وتعرض أمن مصر القومي للخطر.

ولم تقتصر تصريحات وزير الخارجية أحمد ماهر على ذلك، ولكنها أدانت أيضاً موقف الحكومة الاسرائيلية من لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الأمم المتحدة لأنها أكدت أنها سوف تكشف الفضائح والفظائع التي ارتكبت ضد الأبرياء في جنين وغيرها والتي دفعتهم الى المطالبة بعدم محاكمة أي شخصية اسرائيلية نتيجة تقرير اللجنة مما يعني أنهم يعلمون أن هناك أشخاصاً يستحقون المحاكمة.

ومع هذه التصريحات الواضحة والصريحة جاءت في مصر تعليقات صريحة أيضاً ضد حديث ادلى به الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء ونشرته صحيفة «الوطن» في قطر، «الاتحاد» في الامارات، و«الرأي العام» في الكويت ونقلت «الواشنطن بوست» مقتطفات منه، وكذلك صحيفة «معاريف» الاسرائيلية. وهو حديث آثار ثائرة قوى وأحزاب وصحافة المعارضة في مصر، لأنه قال فيه رداً على تساؤل عن السبب الذي يجعل مصر لا تتحرك بقطع العلاقات الدبلوماسية أو الدخول في مواجهة مباشرة بطرد السفير الاسرائيلي قال «اذا أردت أن تتحرك وأن تكون جاهزاً لمواجهة التحديات لا بد أن يكون لديك مائة مليار دولار».

وعندما سئل الدكتور عاطف عبيد عما اذا كان توفير المبلغ يعني شن الحرب ضد اسرائيل.. اكتفى بالقول ان هذا يؤدي الى بداية تغيير في الحسابات! أثارت كلمات الدكتور عاطف عبيد موجات شديدة من النقد والمعارضة لأنها أساءت الى الدور الذي تقوم به القوات المسلحة المصرية عندما ربط حركتها بتوفير أموال محددة دون تقدير لدورها الوطني في الدفاع عن الأرض والشعب. ورجعة الى التاريخ القريب تظهر ان الحروب التي خاضتها مصر جميعاً كانت نتيجة لعدوان عليها من اسرائيل. ومصر لم تكن أبداً دولة عدوانية.

ولم تقف معارضة حديث الدكتور عاطف عبيد عند هذا الحد، ولكنها تجاوزت الى ما جاء على لسانه رداً على سؤال عن تعظيمه للدور الأمريكي وما اذا كانت مصر تنتظر ضوءاً أخضر من واشنطن للقيام بأي دور أو تحرك أو رد فعل رسمي تجاه ما يجري على الساحة الفلسطينية عندما قال «ليست المسألة ضوءاً أخضر ولا أحمر ولا قطر ولا السعودية ولا مصر ولا البلاد العربية ولا أوروبا ولا أي بلد في العالم يستطيع التحرك ضد السياسة الاميركية».

وهكذا عادت تصريحات عاطف عبيد الى الماضي القريب عندما صرح السادات وهو يروج لاتفاقيات كامب دافيد بأن 99.5% من أوراق اللعبة في يد أمريكا. وهو الأمر الذي أدى إلى توقيع اتفاقيات كامب دافيد التي ثبت لنا الآن أنها لم تحقق سلاماً شاملاً وعادلاً للأمة العربية. وانها عزلت مصر لسنوات طويلة، ووضعتها اليوم في موقف يحتاج الى تفسير صحيح.

ولا شك أن تصريحات عاطف عبيد تعتبر صوتاً غريباً عن صوت الشعب المصري الذي لم يتردد في تقديم أغلى التضحيات لقضايانا القومية دون أن يدخل الأمور في دائرة الحسابات والأرقام.

هذا هو بعض ما يدور في مصر حالياً والذي يظهر انه رغم مشاعر الغضب والاحباط التي عمت شعب مصر بأكمله ازاء أحداث فلسطين الا أنه تعامل معها تعاملاً وطنياً وقومياً وحضارياً. فليس هناك اندفاع نحو اتخاذ قرارات غير محسوبة بدقة لمصلحة الأمة والشعب أو تجاوز ردود الفعل الشعبية والرسمية للحدود التي تؤثر على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ومع ذلك، فإن ظواهر الأمور توحي بأنه رغم مرارة وقسوة الظروف التي نمر بها الا أنها يمكن أن تنبت تغيراً جديداً لا يحتمل تهاوناً مع الفساد أو استهتاراً بتأكيد الديموقراطية وحقوق الانسان أو تهاوناً مع التنظيمات الاسلامية المتطرفة التي تتربص بأمن الوطن واستقراره أو اهمالاً لتأكيد قدراتنا الذاتية التي تحمينا من الاعتماد المطلق على المعونات الخارجية التي قد تستخدم كوسيلة ضغط على قرارنا السياسي أو العسكري. ومصر تمر بظروف تدفعها الى الاحتشاد والتركيز على حماية الأرض والشعب، عن طريق تحقيق جبهة داخلية متماسكة بالديموقراطية والوحدة الوطنية، وتضامن عربي وثيق منسوج بخيوط المصلحة المشتركة.