تدويل العرب إعلاميا: هل هناك «مردوخ» أو «تيرنر» عربي؟

TT

ما السبيل الى طرح العرب في السوق الإعلامية الدولية؟

دولية العرب الاعلامية موضوع يغيب ثم يتجدد كلما شعروا بأنهم غير مسموعين دوليا. لقد اكتشفوا منذ الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر من عام 2000 انهم يتداولون في ما بينهم صراخهم وآلامهم ودموعهم، ويهرقون اطنان الحبر على اطنان واطنان من الورق دون ان يسمع العالم صوتهم، ودون ان يتعاطف الرأي العام العالمي مع شكواهم من الظلم الفادح الواقع عليهم.

وأمر بديهي ان تعقد ندوات وتلقى محاضرات وتنظيرات ويشارك فيها مسؤولون واعلاميون عرب وعجم لدراسة ظاهرة العجز عن تسويق العرب وقضاياهم دوليا. ولا شك ان الدافع وراء هذه اللقاءات والمداولات نبل المقصد والشعور الوطني والقومي المشترك.

لكن العجيب ان وصف الداء لا يكتمل بوصف الدواء! كل الفصاحة والبلاغة لم تسفر عن بلورة مشروع اعلامي واحد. وظل الكلام في العام، ظل حديثا رائجا ربما عن قناة تلفزيونية دون الدخول في التفاصيل. ولأن العرب امة لا تحب التفاصيل ولا تُعْنَى بإتقان الاختصاص، فلم تنتج هذه اللقاءات لجنة متخصصة واحدة تضع دراسة اعلامية وفنية بالتفصيل الدقيق عن مشروع واحد محدد لاطلاق العرب الى فضاء الاعلام الدولي.

ويبدو ان اطلاق قناة عربية دولية اصعب بكثير من اطلاق ملاح عربي الى الفضاء داخل مركبة فضائية من صنع عربي. لقد سمعت عن مشروع لفضائية تلفزيونية يتداوله مسؤولون في دولتين عربيتين متجاورتين. واقول سلفا ان سعيكم مشكور، لكن جهدكم ضائع.

ولعل استحالة تدويل العرب للعرب اعلاميا هو الذي ابقى اللقاءات الوزارية المعتادة ثم الندوات الاعلامية الاخيرة دون بلورة مشروع اعلامي واحد، لأن السادة الوزراء والسادة المؤتمرين يعرفون سلفا وضمنا استحالة تدويل موقف عربي موحد، واستحالة توصيل العرب الى الرأي العام العالمي، كما هم في ايجابياتهم وسلبياتهم، وكما هم في فرقتهم ووحدتهم، وكما هم في اوضاعهم السياسية والاجتماعية الحقيقية في الشارع وعلى ارض الواقع.

لا حاجة بي الى ايراد اسباب هذه الاستحالة فقد سبقني الى الفضل اهلوه من زملاء وساسة ورسميين. اذن لماذا هذا الصخب المكرر والمعاد عن اطلاق قناة تلفزيونية عربية «رسمية» أو بـ«تمويل رسمي»؟

لن يستحيل على دولة عربية ميسورة الحال تمويل هذه القناة. لكن المشكلة في المادة واللغة الاعلامية. ما دام العرب الرسميون مختلفين في السياسة فهم مختلفون في الاعلام. من هنا لا بد من صرف النظر نهائيا عن قناة عربية موحدة، حتى لو ادارتها حكمة عمرو موسى وذكاؤه.

ما دام حال القطاع الاعلامي العام «زيّ بعضه»، فتعال معي نبحث عن اصحاب المال والاعمال العرب. هناك اليوم اكثر من خمسين فضائية عربية، بعضها او معظمها يموله القطاع الخاص الذي يشكل اعجوبة فضائية لا تقارب السياسة او واقع الحال العربي.

لقد تنفس رجال «البزنس» الصعداء. وجدوا اخيرا الخلاص من الرقابة واوجاع الحدود والصدود بالصعود الى فوق، الى الفضاء. بات اطلاق فضائية منوعات خفيفة اسهل من اصدار صحيفة او مجلة سياسية او غير سياسية. لكن لماذا لا يجرؤون على تمويل اطلاق قناة عربية عالمية باللغة الانجليزية؟

رأس المال جبان. فهؤلاء مرتبطون بمصالح اقتصادية ومالية في بلدانهم. وهذا حق طبيعي لهم. لكنهم لا يريدون المعاناة من اضرار اذا ما اخترقت القناة المنشودة فضاءات داخلية واجتماعية وسياسية مستورة. بالاحرى، هناك قرار سياسي عربي عام بعدم السماح لرجال البزنس بالاقتراب من مسرح الاعلام السياسي، حتى ولو كانت الممارسة السياسية شفهية وكلامية في اعلام سابح في الهواء.

ماذا يبقى في ساحة الأمل والتفاؤل ازاء انعدام اهلية القطاعين العام والخاص لتدويل العرب اعلاميا بنجاح؟ يقول المثل الشعبي: «لا يبقى في الميدان سوى حديدان». هل المدعو «حديدان» مستعد للانطلاق في فضائية عربية دولية؟ اقصد هل هناك «روبرت مردوخ» او «تيد تيرنر» عربي مستعد لركوب المغامرة والمنافسة واطلاق فضائية دولية بسرعة الـ «سي. إن. إن» او ذكاء وجدية تلفزيون الـ «بي. بي. سي»؟

اتفرس في الوجوه العربية الشاحبة القابعة في صناديق المال الباردة في زيوريخ وجنيف ولوكسمبرغ وباريس ولندن... فلا اعثر إلا على ارقام فلكية مطبوعة على وجوه حيدت مشاعرها إزاء الوطن وهمومه وامانيه وآلام سكانه.

لم يبلغ رجل «البزنس» العربي، بعد، من الوعي ما يكفي لمواكبة فهم شركات «البزنس» الاوروبية والاميركية ومتعددة الجنسية لقيمة الاعلام. فالرأسمالية العربية طفلة تحبو بالمقارنة مع رأسمالية اوروبية عمرها ثلاثة قرون، رأسمالية انجبت ديمقراطية صناعية ثم الكترونية، ولها فكرها ورؤاها وتياراتها السياسية، واستقر رؤساء مجالس ادارة شركاتها في مجالس ادارة اعرق الصحف واقواها واوسع المحطات التلفزيونية انتشارا، رأسمالية ليس همها فقط تحقيق الربح السهل والسريع بأية وسيلة «فهلوية».

تقول لي: آراك نفضت يديك من المال الرسمي والمقيم والهارب. فمن الذي يبادر اذن، من العرب الى الصعود الى فضاء الاعلام الدولي؟

واجيب معترفا بأني متشائم. فدولية الاعلام الرسمي مستحيلة النجاح لعدم قدرتها على مخاطبة رأي عام عالمي بلغتنا الاعلامية المباشرة والسقيمة. ودولية الاعلام غير الرسمي صعبة صعوبة العثور على «حديدان» يملك المال والجرأة والوعي للاقدام على المبادرة.

من يبقى اذن؟

ابحث عن «جابر لعثرات الكرام». انه امل واه في العثور على «مردوخ» أو«تيرنر» دولي يقبل بإطلاق فضائية دولية بالنيابة والوكالة عن العرب، وفي استقلالية تامة عنهم، ودون وصاية عليه منهم.

تعريب «تيرنر» اجنبي لا يتم بتلاوة شعر محمود درويش على مسمعه انما باغرائه بلغة المصلحة. انه مشروع رابح تجاريا. فالمتفرجون العرب سيقبلون على السلع التي تروجها القناة والمصدرون العرب والدوليون بحاجة الى عرض سلعهم على شاشتها.

اقول للسادة الرسميين المهتمين بتدويلنا اعلاميا ان اول شروط نجاح قناة عربية دولية ان لا تكون عربية! لا ضرورة للاعلان عن عروبتها على شاشتها. ولا ضرورة ان تكون اخبارها عربية مائة بالمائة، ولا حتى اربعين بالمائة. انها قناة دولية مستقلة متعاطفة مع العرب بحكمة وهدوء. يكفي انها تتحدى عشرات الفضائيات الدولية المنحازة ضدهم، قناة تمرر بذكاء اعلامي ملاحم داحس والغبراء بنسبة عشرة بالمائة فقط من اخبارها وتقاريرها وآرائها.

اذهب الى ابعد من ذلك في مخاطبة هواة الاقنية الدولية، لاقول ان لا مكان فيها للاعلاميين العرب. قناة يديرها ويعمل فيها اعلاميون دوليون محترفون. هناك عشرات من التلفزيونيين والصحافيين الاجانب، وبينهم انجليز واميركيون وفرنسيون، يقبلون عن طيب خاطر العمل في مؤسسة اعلامية تحررهم من الانحياز الاعمى لاسرائيل واليهودية العالمية، وتقدم صوتا عالميا مستقلا ان كان متعاطفا مع العرب، وان كان رافضا للظلم الواقع عليهم، فليس ساكتا عن ظلامهم.

لا نجاح لقناة عربية اذا اصرت على نقل الخطب والتصريحات الانشائية، ولا اقبال عليها اذا اصرت على تحلية اخبارها بالصور والاخبار الرسمية، ولا اهتمام بقناة تضع «ماكياجا» زائفا على وجوه العرب، دون ان تتلو، على سيداتي وسادتي من المستمعين الاجانب، سجل العرب في حقوق الانسان، ودون ان تعكس ما يجري في شوارعهم وبيوتهم وجامعاتهم ومساجدهم وما يدور في عقولهم واذهانهم.

ما زلت اشعر بالخجل كلما تذكرت تصويت العرب مع دول الكتلة الشيوعية في مؤتمرات اليونسكو في الثمانينات ضد حرية تدفق الاخبار والمعلومات. كان هناك اصرار، وربما ما زال على ان يكون الخبر المذاع او المتلفز ممهورا بالختم الرسمي لستالين وموبوتو سيسي سيكو وبينوشيه وتشاوشيسكو وصدام. نعم، هناك تحيز في الاعلام العالمي يقدم الوجه السلبي للعرب، لكن يجب ان لا يكون ذريعة لمنع تدفق المعلومات والاخبار في عصر الديمقراطية الالكترونية العابرة للحدود والفضاءات الضيقة.

لنفتح نوافذنا وفضاءاتنا الاعلامية قبل ان نفكر في فتح نافذة على العالم. لكن هل تلفزة العرب دوليا هي الطريق الوحيدة والكافية لنقلهم الى احضان الآخرين؟

لا. هناك اكثر من قناة واكثر من أداة اعلامية. فلنحاول ان نبحث عنها معا في الثلاثاء المقبل في هذا الحديث المتواصل عن كيفية تدويل اخبار ليلى وهند وسعاد.