على هامش ماجرى: البحث عن الغول والعنقاء واتفاقية الدفاع العربية المشترك

TT

كلما تأزم الموقف بحث الناس عما يعينهم في الخروج من الأزمة، استحضروا أبطالا من التاريخ حالمين بعودتهم، أو باحثين عن أمل أي أمل في واقعهم يتصورون أنه المخرج . ينطبق هذا على الوضع الذي نعيشه الآن، تلك الحالة التي انفردت فيها اسرائيل بالفلسطينيين ، مارست معهم كل أنواع الجرائم، وقتها شعر الناس في الشارع بالعجز والغضب، في مثل هذه الأجواء تضاربت المشاعر، فمن باحث عن صلاح الدين، ومن ساخط على الواقع مستحضراً صفحات من تاريخ العرب، بينما آخرون يتنادون بأهمية التضامن العربي مطالبين باحياء المهجور من الاتفاقيات العربية وعلى رأسها اتفاقية الدفاع العربي المشترك.

اعتقد المنادون باحياء هذه الاتفاقية أنها الطريق الوحيد للخروج من المأزق وكأنها الوصفة السحرية التي لو طبقت لخرج العرب من المأزق منتصرين.

لعله من المناسب بعد أن هدأت الأمور قليلاً ، وبدأ غبار الانفعال في الانقشاع أن نتوقف ليس للحظة ولكن لفترات طويلة لنتناقش وندرس كل ماحدث خلال الأسابيع الماضية، وكل الدعوات والاتهامات والأحلام والخرافات والحقائق التي أفرزتها تلك الحالة المتمثلة في المواجهة بين التجاوز الاسرائيلي في مواجهة العجز العربي.

البدء في مناقشة كل افرازات هذه المرحلة التي لم تنته بعد هي من الهموم ـ أو هكذا أتصور - التي ينبغي أن تشغل عقول الأمة ومفكريها. التوقف لدراسة ما حدث وآثاره، وأياً كانت قسوة النتائج فإن مواجهتها هي الخطوة الأولى التي لا يمكن أن يبدأ أي تطور ايجابي إلا بها.

مواجهة الواقع تستلزم منا قراءة واقعية للخرافات والحقائق والأوهام والوقائع التي نعيشها.

من بين هذه الخرافات التي ظهرت على سطح الأزمة خلال الأسابيع الماضية كانت اتفاقية الدفاع العربي المشترك ، وهي الاتفاقية التي تنادى بها المتظاهرون في العواصم العربية، والمتصارخون عبر القنوات الفضائية، وخرج من يتهم الأنظمة العربية بتقاعسها عن تطبيق واحياء هذه الاتفاقية، ووصل الأمر الى مستوى مسؤولين رفيعي المستوى على الصعيد العربي يتحدثون عن احياء هذه الاتفاقية. والحقيقة أن اتهامات عدة يمكن أن توجه إلى الأنظمة العربية في الأزمة الأخيرة، ولكن ليس من بينها بالتأكيد التقاعس عن تطبيق اتفاقية الدفاع العربي المشترك، التي هي في الواقع لا تمثل أكثر من وثيقة كادت تكتسب صفة الأثر، ولم تمثل في أية مرحلة أكثر من تكئة لفعل ما، أو مزايدة كلامية في مواقف لا تحتمل المزايدات . وآخر هذه المزايدات الاتهامات التي وجهت لأنظمة دول عربية على رأسها مصر لتقاعسها عن إعمال اتفاقية الدفاع المشترك، والدخول في حرب ضد اسرائيل لانقاذ الفلسطينيين، وتجاوزاً لمناقشة مسألة الحرب مع اسرائيل وامكانيتها وهو الآن الذي خاض فيه العديد، أود أن أتوقف أمام مسألة اتفاقية الدفاع العربي المشترك.

لا أظن أن الكثيرين توقف قليلاً أو كثيراً في محاولة لقراءة نصوص هذه الاتفاقية، ولا أعتقد أيضاً أن كثيرين يعرفون أن اسم هذه الاتفاقية هو «معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتعاون الاقتصادي».

جاء ميثاق جامعة الدول العربية خالياً من أية نصوص حول التدابير المسموح باتخاذها لحماية الأمن القومي للدول العربية، ولم تحدد أجهزة أو آلية أو مهام في حال تعرض النظام العربي أو احدى دوله لأية مخاطر عسكرية. وهو الأمر الذي يختلف بالتأكيد عن الوضع فيما يتعلق بميثاق الأمم المتحدة الذي جاء تالياً في الصدور لميثاق الجامعة العربية. هذا النقص المبدئي في الميثاق ظهر رغم الشواهد العديدة في ذلك الوقت حول تعاظم الخطر الصهيوني الذي كان في تلك الفترة بادياً أنه يتكون ليشكل الخطر الأساسي على النظام العربي بأسره.

ووقعت نكبة 48، ومني العرب بالهزيمة الكبيرة الأولى في مسلسل الصراع العربي الاسرائيلي، وكان أهم دروس هذه النكبة ادراك القيادات السياسية العربية لمدى أهمية التعاون والتنسيق العسكري بين الدول العربية تجاه الخطر المشترك المتمثل في اسرائيل. وكان نتاج هذا الادراك معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية. وهكذا ولدت الاتفاقية مثار الجدل في يونيو 1950 من رحم نكبة 48 . ولكنها في ما يبدو كانت صحوة أشبه بنبضة من بين نبضات متقطعة شهدها تاريخنا المعاصر يفصل في ما بينها فترات طويلة من الجمود.

تضمنت المعاهدة بعض النقاط المهمة التي كانت تصلح لأن تكون أساساً للبناء الذي لم يتم أبداً، تضمنت المعاهدة اقرار مبدأ فض المنازعات بالطرق السلمية، واعتبار أي اعتداء مسلح يقع على أي دولة عربية اعتداء على كل الدول المتعاقدة وعليها أن تبادر إعمالاً لحق الدفاع الشرعي أي تقديم العون للدولة المعتدى عليها، وأشارت الاتفاقية إلى أهمية التعاون العسكري بين الدول العربية من أجل تعزيز مقوماتها العسكرية، الشق الايجابي الآخر من الاتفاقية يتناول ترتيبات اقتصادية للنهوض باقتصاديات البلدان العربية.

وكأنما ولدت الاتفاقية لتحمل في طياتها أسباب تعطيلها، فمن السلبيات المهمة في الاتفاقية عدم الزام الدول الأعضاء باستخدام قواتها المسلحة للدفاع عن أي بلد عربي آخر يتعرض للعدوان من الخارج ، ترك حرية ونوعية التصرف في تقديم العون للدولة المعتدى عليها لكل دولة دون تحديد واضح لأسلوب التدخل، ولم تتعرض الاتفاقية لموضوع التكامل العسكري بين الدول العربية وضرورته، بل وحيويته كأساس للأمن الجماعي العربي، وغاب التأكيد على وجود تخطيط محدد للقوات المسلحة العربية.

احتوت الاتفاقية على تشكيل مجموعة أشكال تنظيمية للعمل العربي العسكري المشترك مجلس دفاع مشترك له سلطة قرار ملزمة يضم وزراء الخارجية والدفاع، هيئة استشارية عسكرية تضم رؤساء أركان الجيوش العربية للدول المتعاقدة ولجنة عسكرية دائمة، وقيادة عسكرية موحدة ترأسها الدولة التي تشارك في مسرح العمليات بقوات وعتاد أكثر.

من القراءة الأولية لنصوص معاهدة الدفاع العربي المشترك ومقارنتها سواء باتفاقية حلف الأطلنطي أو حلف وارسو من قبل لاكتشفنا أن الروح واحدة، أي أن هذه المعاهدة كان يمكن أن تكون صالحة للبناء عليها، والوصول في مرحلة تالية ، إلى حلف، ولكن هذا الحديث النظري يتضاءل بل ويتلاشى أمام الواقع العملي. الفارق الرئيسي بين حالة معاهدة الدفاع العربي والأحلاف الجادة الأخرى أن أصحاب هذه الأحلاف عنوا ماقالوا ونفذوا ماتعاقدوا عليه، وطوروا مفاهيم التعاون العسكري والدفاع المشترك بينما ظلت عربياً نصاً بلا روح وأجهزة بلا محتوى، فقد ترافق مع هذه المعاهدة كما غيرها من المعاهدات والالتزامات حالة غياب كاملة للارادة السياسية العربية في تفعيل أي من هذه الأشكال الوحدوية أو التعاونية أو التضامنية، أو أي مسمى آخر يمكن أن يقبل به أي تيار أو فصيل سياسي عربي. فمن الواضح أن المنظومة العربية تعاني ليس فقط من ضعف في بنيتها وجوانبها التنظيمية، وانما كذلك من عدم قدرة الدول العربية منفردة أو عدم رغبتها في أن تعمل في دأب لتنفيذ برامج تستهدف الصالح المشترك، بل وتغلب المصلحة القطرية الضيقة على المصلحة القومية العامة.

تناغم مع غياب الارادة السياسية حالة الشك العربي ـ العربي المتبادل بين الدول العربية، ولعل تجربة «القيادة العربية الموحدة» التي أقرت في القمة العربية في سبتمبر 1964 في اطار ميثاق التضامن العربي.. لعل هذه التجربة، أو أسباب فشلها هو خير دليل على ابراز هذه الميزة الواضحة في العلاقات العربية ـ العربية وهي الشك وعدم الثقة.

فقد تشكلت تلك القيادة لمواجهة الخطر الاسرائيلي - مرة أخرى - ومن اختصاصاتها تنظيم عمليات مشتركة، ولكنها لم تكن مسؤولة عن التنظيم الشامل للدفاع عن الدول العربية، أو عن نظم التسليح للجيوش العربية، وتركت هذه المسؤوليات الحيوية للقيادات القطرية، وهذا الأمر وحده كان كفيلاً بولادة «قيادة عربية موحدة» عاجزة ومعوقة، فعلياً ليس لها اختصاصات لتمارسها، والأنكى من ذلك امتناع الدول العربية عن سداد حصتها المالية - كما هي العادة ـ للقيادة الموحدة، ورفضت الحكومات العربية الموافقة على مبدأ انتقال القوات العربية من دولة الى أخرى أو دخول أراضيها أو حتى عبورها.

حتى البدائل الثنائية والثلاثية في تشكيل قيادات عسكرية موحدة أو تنسيق على مستوى عال بين دولتين أو أكثر مني دائماً بالفشل، وولد مقروناً بأزمات الشك والتربص، وغياب الارادة الحقيقية .

التوقف أمام العديد من المواقف التي واجهت الدول العربية منفردة أو جماعة منذ عام 1950 - عام توقيع الاتفاقية - وحتى الآن تبين لنا أن هذه الاتفاقية المزعومة ما هي إلا قطعة من الورق لم تستخدم إلا لتبرير تدخل أو تمرير قوات أو تدمير أخرى، وهي ذات الاتفاقية أيضاً التي تآمر الجميع على نسيانها في أوقات الضرورة ـ والضرورة هنا هي البناء عليها وخلق آلية لها ـ وذلك لوجود تناقضات أساسية في اهتمامات وأولويات الدول العربية منفصلة. لو تذكرنا فقط ما مر بالعالم العربي خلال تلك الفترة واستحضار ما جرى فإن هذا سوف يؤكد ـ من وجهة نظري على الأقل- النظرة الواقعية والتي قد تبدو قاتمة حول حقيقة هذه الاتفاقية. هذه الأحداث التي بدأت منذ الاعتداءات الاسرائيلية في مطلع الخمسينات وحتى ضرب الفلسطينيين المستمر حتى الآن ، مروراً بحرب 56 ، 67 ، 73 وأزمة حنيش، والجزر الثلاث، وغزو الكويت وحرب تحريرها والحرب العراقية الايرانية وحروب الانفصال والتوحد، وكل المناوشات الحدودية خلال أكثر من نصف قرن بين مختلف الدول العربية.

الواقع يقول أنه لا توجد من اتفاقية الدفاع المشترك سوى نصوص أفقدتها السياسات العربية على مدى أكثر من نصف قرن مضامينها، حتى الاتفاقات الثنائية والثلاثية خارج اطار الجامعة أصيبت بذات الداء، الواقع يقول أنه لا توجد شفافية عربية ـ عربية في المسائل العسكرية، وفي ما عدا المعلومات المخابراتية التي تنشط الدول العربية في جميعها عن بقية الدول الأخرى فلا يوجد شكل من أشكال تبادل المعلومات عن القدرات العسكرية للدول الأخرى، وهذا يقودنا إلى حالة الشك المتبادل.

الواقع يقول أنه لا يوجد تكامل عسكري عربي، ولا محاولة جادة من أجل نهضة حقيقية في مجال التصنيع العربي المشترك، ارجعوا الى تجربة الهيئة العربية للتصنيع التي ولدت بحلم وأغتيلت بخنجر الخلافات السياسية.

العرض المختصر السابق للواقع يبين أن الدعاوى التي خرج بها المنادون باحياء اتفاقيات الدفاع المشترك لا تستند إلى أساس واقعي، وهي دعوات لأشخاص منفعلين أو غير مدركين لحقيقة الأمر. ان الباحثين عن تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك انما هم كالباحثين عن المستحيلات، الغول والعنقاء والخل الوفي ويستمر البحث عن الغول والعنقاء واتفاقية الدفاع العربي المشترك.

ملحوظة أخيرة ليست بريئة اطلاقاً، ففي الوقت الذي يحرص مجلس وزراء الداخلية العرب على الانعقاد بشكل دوري سنوي، وتحرص كافة القيادات الأمنية العربية على حضوره للتنسيق بين ادارات الأمن الداخلي المختلفة في الدول العربية جميعها، فإن مجلس الدفاع العربي المكون من وزراء الدفاع العرب ووزراء الخارجية معهم لم يجتمع أو يدع لاجتماع منذ سنوات لا أظن أن أياً منا يذكرها! [email protected]