البحث عن رواية

TT

نكرر هذه الايام لازمة لا بد منها مثل مفارق الفقرات في النشيد الوطني، وهي اننا نمر في ظروف او مراحل تاريخية كبرى، وهو تعبير يكاد لا يصور حقا حجم ومغزى وآثار وانعكاسات الايام التي نعيشها ولكن ماذا يبقى لنا من هذا «التاريخ»؟

ان التاريخ، كما كان يقول برنارد شو، هو اكذب الرواة. واسمح لنفسي بالقول انه امهر المقلمين. واذ اتطلع الى الحديقة المجاورة وارى كيف يقلم الرجل الاشجار والورود والازهار، اتخيل التاريخ امامي يرمي جانبا بالصفحات التي تكتب، ويحول الشهداء الى ارقام والدماء الى تواريخ، والمآسي الى عناوين مقتضبة.

تلك كانت دائما مأساة الانسان مع تاريخه. فهذا السيد تاريخ لا يستبقي بسبب ازدحامه، واكتظاظه، سوى البيانات الرسمية المشذبة والاقوال المكتوبة في هدوء والمواقف المرصوفة في عناية. وعندما اقرأ في الصحف زاوية «في مثل هذا اليوم» ارى كيف تحشر الدماء والبطولات والهزائم في بضعة اسطر شرطها الاختصار كي لا يشعر القارئ بالملل: في مثل هذا اليوم وقعت معركة ستالينغراد. في مثله وقعت معركة وحصار لينينغراد. في مثل هذا اليوم هزمت روما هنيبعل القادم من قرطاج.

في مثل هذا اليوم اطلق ادولف هتلر النار على صدغه. هل من يقول لنا مثلا ان والد فلاديمير بوتين كان طباخا لاحد الجنرالات في حصار لينينغراد، ولذا لم تمت العائلة من الجوع؟

يهمل التاريخ، في صورة خاصة، عناصره ومكوناته وضحاياه: الناس وقد حاول تولستوي ان يصحح هذا المنحى، هذا الانحراف، فعندما درس التاريخ بحثا عن الحقيقة وجدها تهرب منه. فلم يكن الماضي سوى بلاغ رسمي، سهل ومبسط. وكانت الحرب اللبنانية، بكل فظائعها ومآسيها ومؤامراتها وجرائمها ومدبريها ومموليها، تختصر في نهاية كل شهر «بتقرير الشرطة عن عدد القتلى». وكانت وكالات الانباء ترفق التقرير بمقارنة ذكية جدا عن الفارق في عدد القتلى بين من سبق ومن لحق. ولم يكن التقرير، ولا علم المقارنة، يذكر شيئا عن ام او ارملة.

في «الحرب والسلم» حاول تولستوي ان يقطع يد المشذب. او المقلم. وان يستبق عملية التزوير في نقل المأساة على انها مجرد بيان رسمي. فقد تحولت عملية التاريخ الى محاولة اخفاء لا محاولة اظهار. وكان الجنرال مارشال يقول ان ثمة «غموضا ازليا» يرافق الحروب. وهو ان اكثر المعارك جرت باوامر من رجال يفتقرون الى الكثير من المعلومات واحيانا بلا معلومات اطلاقا. ولذلك كان هناك تواطؤ عام بين الرجال الذين يديرون امور البشر ويعتبرون انفسهم رجال دولة او خبراء في الاستراتيجيا.

وكان هناك تواطؤ شامل بين المؤرخين ايضا. وهم لحسن الحظ قلة في العالم العربي، لان التاريخ صناعة لا تطعم الخبز مثل مهن كثيرة اخرى.

حاول تولستوي ان يعوض بالرواية ما اهمله التاريخ. ووقف الى جانب العجز البشري لا الى جانب «الاستراتيجي»، ووصف كيف تروح الجيوش الاوروبية وتعود عبر القارة مثل اوراق يابسة في لفح الرياح. الحرب شيء اخر، غير البيانات الرسمية. ونحن للاسف نعاني، من قلة المؤرخين وندرة كتاب الرواية المعوضين عن ذلك.