الحاجة إلى غاندي في فلسطين

TT

في المظاهرة الصاخبة التي امتدت الى كيلومتر في مدينة مونتريال الكندية بتاريخ 27 أبريل عام 2002 كانت الهتافات تتكرر باللغتين الانجليزية والفرنسية: أيها السفاح شارون. وفي نفس الوقت كان فريق من اليهود (الاتحاد اليهودي المناهض للاحتلال Jewish Agco Allicance Against the occupation) يوزع منشورات على المتظاهرين يتبرأ فيها مما تفعله اسرائيل ويرتكبه شارون. وهو يكرر المفهوم القرآني «ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون». ومعنى «ليسوا سواء». وهذا يلفت نظرنا الى التفريق بين اليهودية والصهيونية. كما ظهر ذلك في المقابلة التي اجرتها قناة الجزيرة مع الحاخام (ديفيد وايس) من نيويورك الذي اعتبر ان الصهيونية تتغذى على الدماء وأنها ضد الله والتوراة وأنها جرت كارثة على كل يهود العالم. كما أنه يفتح اعيننا ايضا على أن أي مجتمع ليس كتلة صلبة متجانسة بل هناك مجموعات متباينة والمجتمع الاسرائيلي لا يخرج عن هذا القانون، ومن اليهود (نعوم تشومسكي) وهو يكتب ضد الصهيونية. كما ان والدي (نورمان فينكلشتاين) ذاقا العذاب في الهولوكوست النازي ولكنه يخرج اليوم كتاباً عن صناعة الهولوكوست.

نحن اذاً امام ثلاث حقائق: (1) أن نفرق بين اليهودية والصهيونية. وأن المجتمع الاسرائيلي منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قددا. ونحن في جو محموم بين ثلاثة أشخاص: من يمارس القتل والقتل المضاد، ومن يتجرأ فيبدي رأيه ليتهم بالخيانة. أو وهو الفريق الأعظم الذي يفضل ان يعيش في الظل على مبدأ ديكارت: «عاش آمنا من بقي في الظل». (2) والحقيقة الثانية أن الناس في اسرائيل كتل متباينة منهم (أوري افنيري) الذي يكتب مقالا ان اسرائيل تكرر مأساة أسطورة (نيسوس) الذي حمل قميص الغزل من امرأة هرقل كي يغمسه في ينبوع الحب الا ان نيسوس الكائن الاسطوري عمد الى نقع القميص في نبع للسم فلبس هرقل القميص المسموم فمات به.

يقول (أفنيري) في تعليقه على الأسطورة: يبدو أننا بإصرارنا على الاحتفاظ ولبس قميص الضفة الغربية وغزة سنموت كما جاء في الاسطورة. ويمضي المؤرخ الاسرائيلي (روي فين موسكوفيتش) الى اكثر من هذا في تحليل له بعنوان اسرائيل على شفير الهاوية نشرته مجلة در شبيجل الألمانية يستخدم فيها مثلا مضحكا عن اثنين من اليهود ركبا قطارا. فأما الأول فكان مستريحا في مقعده وأما الثاني فكان يزداد ارتباكا ورعبا مع الوصول الى كل محطة جديدة. فسأله الأول ما بالك يا صاحبي على حالة لا تسر الصديــــق؟ قال إنني اكتشف مع كل محطة ان القطار يمشي عكس الاتجاه الذي أريد. قال له الأول: لمـــــاذا لا تنزل وتأخذ القطار في الاتجــــــاه المعاكس؟ تأوه الثاني وقال: لــكن المقعد مريـح ثم ما الضمان انني سأجد قـــــــطارا في الاتجاه المعاكس. يقول (موسكوفيتش) وهــــكذا فإذا هذا الراكب الأحــــــمق لا يقترب من هدفه الا بعدا واســـــرائيل تمضي اليوم في الاتجاه المعاكس. (3) وثالثا يجب ان نعترف بحقــــــيقة ان المجتمع الاسرائيلي من داخله ديمقراطي فهـم رحماء بينهم وهم في الخارج اشداء على الفلسطينيين والعرب.

أما نحن فـ «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى». وهذه الصفات الانسانية يمكن ان تنقلب من شخص الى شخص ويتحرر منها مجتمع ليتلبسها آخر فهي (ثقافة) وليست (جينات). وهذا يفتح عيوننا على حقيقة مفزعة أنه بقدر وجود الديمقراطية داخل المجتمع الاسرائيلي بقدر رسوخ الديكتاتورية في العالم العربي بما يفسر لنمو الورم الصهيوني في جسم انهار فيه جهاز المناعة. واليوم يتجرأ المئات من الضباط والجنود الاسرائيليين ان يوقعوا عريضة اعتراض ضد شارون. في الوقت الذي توجد فيه فرق الاعدام في الجيوش العربية لمن يعترض على الأوامر. وفي مذابح صبرا وشاتيلا تحركت مظاهرات بألوف حاشدة من الاسرائيليين ضد شارون. في الوقت الذي لا تتحرك فيه مظاهرة حقيقية في عاصمة عربية. انها حقائق موجعة للمصارحة مثل الطبيب الذي يصارح مريضه بحالته الخطيرة. والآن الى الشق المزعج في قصة الصراع العربي الاسرائيلي الذي يستحق ان يسمى بحق الحملة الصليبية الثامنة أو حرب المائة عام في الشرق الأوسط. لقد جربت الجيوش العربية حظها فلم تحصد سوى الهزائم الخارجية والديكتاتورية الداخلية وانفاق تريليون دولار على التسلح. كما يجرب الفلسطينيون حظهم في الافلات من قبضة الاحتلال بالحرب بدمار شامل ونهر من الدموع وجداول من الدماء. ولكن السؤال الملح هو أن من اعتمد البندقية للخلاص تصبح مع الوقت اللغة التي يحسن التكلم بها. والجزائر قدمت مليون شهيد فلم تحصد سوى البؤس والديكتاتورية. وأفغانستان خسرت مليون ونصف المليون قتيل وسبعة ملايين لاجىء ولم تحصد سوى الخراب.

وفي الوقت الذي تحررت فيتنام بخمسة ملايين قتيل سرحت اليابان جيشها البالغ خمسة ملايين جندي واستسلمت بدون قيد أو شرط وقفزت الى قمة العالم. انها نماذج للتحرر ويمكن ان نرى المسافة الآن بين المجتمع الفيتنامي والياباني. قد نستطيع ان نتفهم تأخر ولادة أسلوب المقاومة المدنية في ظل الأنظمة العربية. ولكنها فرصة الفلسطينيين اليوم تحت كاميرات وانتباه العالم ان يمارسوا هذا الاسلوب الحاذق والاخلاقي والاقتصادي للوصول الى حل عادل لقضيتهم.

ولنتصور بدل القتال المسلح في مخيم جنين لو خرج الأطفال والنساء والرجال بدون سلاح في وجه الدبابات الاسرائيلية وتحت عدسات المصورين هل يمكن ان يحدث حجم الدمار الذي حدث؟ وليست المشكلة هنا فقط بل في النتائج. هل الشرخ النفسي ومقدار الألم والمعاناة وحجم التدمير والقتل والآثار السيكولوجية المزروعة في قلوب الناس هي أفضل؟ أم أسلوب اللاعنف والمقاومة المدنية الذي لا يعتمد تحطيم ارادة الآخر بل الخروج معه بإرادة مشتركة؟ وفي أزمة كوبا عام 1960 كما عرض في فيلم 13 يوما تغلبت الحكمة في النهاية على الجنون وخرج الطرفان بحل يرضي الجميع ولا يخسر احد ماء وجهه. فسحبت روسيا الصواريخ واعترفت امريكا بملحق سري بالمحافظة على كاسترو وعدم غزو كوبا. وما زال كاسترو ينعم بصحة طيبة في عرش لا ينبغي لأحد من بعده مثل كل الأنظمة الشمولية في العالم الثالث حتى يأتي جنرال آخر فيحجر على عقله وارادته بلجنة طبية.

ان العالم العربي بحاجة الى شخصية كارزماتية من نوع غاندي يقود الجماهير بأسلوب اللاعنف نحو تحقيق اعظم الانتصارات بدون طلقة واحدة ولكن المشكلة انه لا يوجد غاندي ولا يشجع الوسط ولادة امثاله. ان حجم المشاكل والاحباط في العالم العربي يجعلني اطرح مثل هذه الافكار.

إن الصراع العربي الاسرائيلي مثل الرياضيات في التفاضل والتكامل والتابع والمتحول. ففي اللحظة التي تميل البوصلة الى أقطاب مغناطيسية جديدة تتأرجح الإبرة الى شمال جديد. وهو ما يقوله (جفري لانج) في كتابه (الصراع من اجل الايمان) ان اليهود يخافون من انقلاب الزمن عليهم بما فيهم امريكا ولذا فهم في حالة استنفار دائم لا يعرفون النوم. والأفضل للعرب ان يتوجهوا الى ثلاثة أمور: ايجاد اذاعات باللغات العالمية وخاصة الانجليزية لقضيتهم. واخراج افلام تحرر من هوليود وانتاج ثقافة انسانية سلامية بعيدة عن العنف والجنس. وثالثا الانتباه الى تقنية الفضاء لأنه علم المستقبل. ولكن كل هذا يحتاج لمناخ عقلي يحرر الارادة والامكانيات. في الوقت الذي ما زلنا نتناقش حول جنس الملائكة هل هي ذكر أو انثى؟