موقف العرب من المؤتمر الدولي

TT

توحي كل مواقف الحكومة الاسرائيلية، بصراعاتها في الداخل، وتحركاتها في الخارج، بانها رافضة اصلا استئناف المفاوضات لعدم قناعتها بالسلام، الذي يعثر مسيرتها التوسعية فوق الارض الفلسطينية، وتعمل بإصرار على مواصلة الحرب لقناعتها بأنها تستطيع ان تحقق بالقوة على ارض الواقع ما عجزت عن تحقيقه طوال الاحد عشر عاما الماضية من هدنة مدريد في عام 1991 الى اليوم في عام 2002.

هذه الرؤية العسكرية التي يقودها رئيس الوزارة اريل شارون تحدد معالم الطريق الداخلي الذي يعطي الاولوية للحرب وتسعى في المسلك الخارجي لتحصل على شرعية القتال لتجعل من عدوانها على الفلسطينيين مؤيدا بأحكام القانون الدولي العام باعتبار هذا العدوان دفاعا عن النفس لصد الارهاب الذي اطلقته على الكفاح الوطني الفلسطيني، وبكل ما في هذا التفكير الاسرائيلي من تطرف، لاقى تأييدا من امريكا في «هوجتها» الرامية الى محاربة الارهاب في كل مكان من بعد الاعتداء عليها في نيويورك وواشنطون يوم 11 سبتمبر عام 2001، وبدأت اسرائيل تشيع في الاوساط الدولية بانها شريكة امريكا في محاربة الارهاب، التي بدورها اخذت تبارك هذه المشاركة الاسرائيلية لها باعتبارهما حليفين استراتيجيا في منطقة الشرق الاوسط، وهذا التفاهم المتبادل بين واشنطون وتل ابيب التي اخذت تواصل القتال ضد الشعب الفلسطيني تحت المظلة الامريكية في محاربة الارهاب.

غياب البرنامج السياسي في اسرائيل جعلها غير قادرة على الاستمرار في وقف القتال الذي اعلنته بانسحابها من رام الله، لأنها بادرت عند لحظة انسحابها منها الى هجوم عسكري بربري على الشعب الفلسطيني في مدينة الخليل فكررت بها جرائم الحرب التي ارتكبتها في مخيم جنين ومدينة نابلس وغيرهما من مدن وقرى فلسطينية مما يفرض الشك والريبة في التعهدات الاسرائيلية بوقف القتال، او اعلان الانسحاب من الاراضي الفلسطينية المحتلة او التي استعادت احتلالها.

ان اسرائيل لا تستطيع الجنوح الى السلام في ظل حكم اريل شارون الذي تعمد ان يصل الى سدة الحكم في تل ابيب، بدون برنامج سياسي، والذي استبدله بخطة عسكرية ترمي الى تحقيق امن اسرائيل بقوة السلاح، وقد حذر العالم بقيادة امريكا الشعب الاسرائيلي من مغبة اختيار اريل شارون لتاريخه الحافل بالاجرام بصورة تجعله غير صالح للحكم في مرحلة زمنية يتطلع فيها العالم الى السلام بمنطقة الشرق الاوسط، غير ان الشعب الاسرائيلي تجاهل تحذير الدنيا له، واختار اريل شارون صاحب السوابق الاجرامية ليكون حاكما لاسرائيل من يوم 6 فبراير عام 2001 فواصل اشعال نار الحرب من بعد وصوله الى السلطة التي بدأها بزيارته الاستفزازية للمسجد الاقصى في عهد رئيس الوزارة السابق ايهود باراك تحت حراسة الحكومة المشددة التي لم يكن عضوا بها.

ترتب على مواصلة القتال لعام وثلاثة اشهر كثير من الموبقات الاسرائيلية ضد الانسانية التي وصلت الى ذروتها بحرب الاجتياح التي بدأتها في يوم 29 مارس عام 2002 وارتكبت فيها ابشع الجرائم الانسانية في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وهي من الجرائم التي تدخل تحت طائلة القانون الدولي العام وتصفها احكامه بجرائم الحرب، ويحاكم عليها القائمون بها امام العدالة الدولية، واعتبر ذلك عرفا دوليا منذ محاكمة مجرمي الحرب النازيين امام محكمة نورنبيرج، وهذا يفرض القلق على مجرمي الحرب الاسرائيليين ليس بالسابقة التاريخية في المانيا وانما بالممارسة العملية المعاصرة في لاهاي بمثول الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش امام محكمة الجرائم التابعة لمحكمة العدل الدولية، وبالمحاكمة الغيابية لرئيس الوزارة الاسرائيلية اريل شارون على جريمته السابقة التي قام بها عام 1982 في لبنان بمخيمي صبرا وشاتيلا، وهذا جعل وزير خارجية اسرائيل شيمون بيريز يطالب الاسرة الدولية بعدم الاخذ بشهادة عسكر اسرائيل ضد ساستها واستخدامها ضدهم في المستقبل لتكون اتهامات لهم بارتكاب جرائم الحرب.

ارتأت اسرائيل بالتشاور مع امريكا، العمل على كسب الوقت لاخفاء معالم جريمة الحرب في جنين وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، واتفقتا على مسلك سياسي دولي يحجب العقاب عن اسرائيل بنفي ممارستها لارهاب الدولة، ويمنع محاكمة قادتها بنفي جريمة الحرب عنهم، فصدر قرار مجلس الامن 1405 القاضي بارسال لجنة تقصي الحقائق وفي نية اسرائيل وأدها عند لحظة ولادتها بطلب تأجيل اعمالها الذي انتهى بتجميد هذا القرار الصادر من مجلس الامن كغيره من القرارات المجمدة، بعد ان ادركت اسرائيل عدم استطاعتها تضليل لجنة تقصي الحقائق عن حقيقة ما حدث من جرم دولي على ارض فلسطين المحتلة، بعد ان تزامن صدور قرار مجلس الامن 1405 مع احتلال مدينة الخليل، وفي ذلك دلالة قاطعة على عدم احترام تل ابيب للارادة الدولية وتحديها للقرار الصادر عن مجلس الامن مما جعل الجدل الدائر بين اسرائيل والامم المتحدة حول لجنة تقصي الحقائق جدلا عقيما لا يقدم ولا يؤخر لأن اسرائيل عقدت العزم على عدم السماح لهذه اللجنة بالعمل في داخل اراضيها، وفي الاراضي الخاضعة لها دون ان تعبأ بحجم الاهانة البالغة للشرعية الدولية وما يترتب على ذلك من فقدان الدول الكبرى بما فيها امريكا لمصداقيتها امام الاسرة الدولية.

اقترح رئيس الوزارة الاسرائيلية اريل شارون عقد مؤتمر للسلام تارة وصفه بمؤتمر اقليمي وتارة أخرى جعل منه مؤتمرا دوليا، والتخبط بين الاقليمية والدولية لمؤتمر السلام يعكس عدم جدية التفكير الاسرائيلي في السلام وسعيه الى هدف يرمي الى الغاء مرجعية مدريد التي تفرض المباحثات السلمية واستبدالها بمرجعية جديدة تبيح لاسرائيل الاحتفاظ بالاراضي التي احتلتها في عام 1967 ليأتي السلام مستندا الى الامر الواقع الذي يلغي قيام الدولة الفلسطينية ويستبدلها بالحكم الذاتي في قطاع غزة، وهذا ادى الى فشل دعوته في عقد مؤتمر للسلام على المستوى الاقليمي والدولي، لأن ما تنادي به اسرائيل مرفوض اقليميا وعليه الكثير من التحفظات والاعتراضات الدولية، ولكن الغاء المؤتمر الذي تطالب به اسرائيل لم يلغ توجهها الرامي الى الاستحواذ على كل الاراضي الفلسطينية وما يرتبط بذلك من استمرار للحرب التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني ليرضخ لارادتها.

فشل الاقتراح الاسرائيلي بعقد مؤتمر للسلام جعل امريكا تسرع الى اعلان رغبتها في عقد مؤتمر دولي للسلام على لسان وزير خارجيتها كولن باول، ولكنها وقعت في نفس المنزلق بقولها تارة بأنه مؤتمر للدول الكبرى دون مشاركة الدول المعنية فيه، وتارة أخرى تنادي بجعله مؤتمرا دوليا عاما يشمل كل الدول، وكلا الاتجاهين المغلق على الدول الكبرى، والمنفتح على الدول جميعا يتعثر في خطواته لأن الانغلاق يعود بالذاكرة الى مؤتمر يالتا الذي قام بتوزيع غنائم الحرب العالمية الثانية بين الدول الكبرى المنتصرة في تلك الحرب، ويخشى ان يعطي المؤتمر للدول الكبرى المقترح انعقاده غنائم الحرب لاسرائيل باعتبارها المنتصرة على الفلسطينيين فتخضع اراضيهم لسيطرتها كما خضعت اراضي المانيا لسيطرة الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية.. اما الانفتاح فيعيدنا الى مؤتمر مدريد عام 1991 لنبدأ في اعادة ترتيب الاوضاع الاقليمية من اول وجديد وفقا للهوى الاسرائيلي المدعوم من امريكا الذي يفضل الاستناد الى استخدام القوة، ويرفض الارتكاز على الدبلوماسية في العمل السلمي فيتحول السلام بدلالاته الواقعية الى استسلام.

المشكلة القائمة على الساحة الدولية اليوم معقدة وتحتاج الى مجهود عربي مكثف حتى يستطيع تحويل معلومة القتل الجماعي وجريمة الحرب الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الى معرفة شائعة بين كافة الدول التي ستشارك في المؤتمر الدولي فيتعذر على اسرائيل فرض ارادتها والهروب من العدالة الدولية التي تقتص منها.