الغباء الكوني للقرية الكونية

TT

اعترتني الدهشة، وانا جالس إلى مائدة العشاء مع بعض الصحافيين الاندونيسيين بجاكرتا، عندما شنت ديني جلال، مراسلة مجلة «العرض الاقتصادي للشرق الاقصى»، هجوما كاسحا على قناة «فوكس» الاخبارية وعلى بيل اورايلي. وقالت ديني جلال عن قناة فوكس: «يقولون: نحن ننشر الاخبار وانتم تقررون. ولكنهم منحازون، انهم يقررون قبل ان نطلع على اخبارهم. انهم يدّعون انهم لا يخدعون المشاهد ولكنني اشعر بالدوار عندما اشاهدها. كما اشعر بالضيق عندما يستضيفون مسلمين فقط ليقدموا لهم الاساءات».

تساءلت بدوري: لماذا لا تكف عن مشاهدة «فوكس» عندما تحضر الى اميركا؟ ولكنها ترد قائلة: «لا، لا. قناة «فوكس» اصبحت حاليا جزءا من حزمة الكيبل التي اشترك فيها». ويطالعها وجه اورايلي المثير للجدل كل ليلة في منزلها.

في طريقي الى جاكرتا توقفت في دبي، وشاهدت قناة فضائية عربية اخبارية تبث ارسالها من اوروبا ولا تخضع لتحكم اية دولة عربية، وهي مرئية في كل انحاء الشرق الاوسط. وتعرض هذه القناة ما يمكن ان اسميه اكثر الانباء اثارة عن النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني: انها تعرض من دون انقطاع مشاهد لاسرائيليين يضربون ويجلدون ويصفعون ويسحبون ويقتلون الفلسطينيين. كنت اود ان اقول ان هذه المشاهد كانت خارج السياق، ولكن الحقيقة هي انه لم يكن هناك سياق اساسا. لم تكن هناك كلمات. كانت القناة تعرض صورا وموسيقى عسكرية غرضها الوحيد إلهاب العواطف.

حكى لي مواطن اندونيسي يعمل بالسفارة الاميركية بجاكرتا، وكان قد زار مؤخرا منطقة نفوذ الاصوليين في جوغاجاكرتا، الحكاية التالية:

لاول مرة رأيت شعارات في الشوارع هناك تقول: «الحل الوحيد للنزاع العربي ـ الاسرائيلي هو الجهاد.. واذا كنت مسلما حقيقيا فان واجبك ان تسجل اسمك للجهاد. وسمعت الناس يقولون: يجب ان نفعل شيئا، والا فان المسيحيين واليهود سيقتلوننا. وعندما تحدثنا الى هؤلاء الناس لنتوصل الى مصدر هذه الافكار التي يرددونها، قالوا لنا انهم جاؤوا بها من الانترنت. وهم يعتقدون ان كل ما يجدونه في الانترنت من اخبار يجب ان يكون صحيحا. انهم مقتنعون بان هناك مؤامرة يهودية وان 4000 يهودي قد أبلغوا مسبقا بألا يحضروا الى مبنى مركز التجارة الدولي في 11 سبتمبر (ايلول). فقد قرأوا ذلك على الانترنت».

وقال الرجل ان ما اخافه فعلا هو وجود انقسام رقمي ماكر بين السكان: فالذين يستخدمون الانترنت ليس اكثر من 5% منهم ولكن هؤلاء يزودون كل السكان بالاشاعات. يقول لك الواحد منهم «لقد وجد هذه الاخبار على الانترنت» والانترنت في اعتقادهم معصومة من الخطأ.

اذا كان هناك شيء واحد تعلمته من هذه الجولة التي زرت فيها اسرائيل والاردن والامارات واندونيسيا، فهو ان العالم صار بفضل الانترنت والقنوات الفضائية، مترابط الاجزاء تقنيا، ولكنه ليس مترابط الاجزاء اجتماعيا او سياسيا او ثقافيا. اننا نشاهد بعضنا ونسمع بعضنا بصورة اسرع وافضل حاليا، ولكن من دون تحسن مقابل في مقدراتنا على التعلم من بعضنا وفهم بعضنا. وهذا يعني ان اكثر ما يولده هذا التواصل التقني هو المزيد من الغضب. وكما قال الكاتب جورج باكر مؤخرا في مجلة «نيويورك تايمز» ان «القنوات الفضائية والانترنت قد جعلت العالم، من بعض الوجوه، مكانا اقل تفاهما واقل تسامحا مما كان عليه».

تستطيع الانترنت في احسن حالاتها ان تعلم الناس بصورة اسرع من اية اداة اخرى عرفناها في كل تاريخنا، ولكنها تستطيع في اسوأ حالاتها ان تجعل الناس اكثر غباء مما كان يمكن ان تفعله اية وسيلة اعلامية سابقة. فالكذبة القائلة ان 4000 يهودي أُبلغوا بعدم الحضور الى مبنى مركز التجارة الدولي في 11 سبتمبر نشرت بصورة حصرية من خلال الانترنت، وتعتبر الآن صادقة بحذافيرها في العالم الاسلامي. ونسبة لان الانترنت تحيط بها هالة «التكنولوجيا»، فان الجهلة يصدقون المعلومات الواردة من خلالها اكثر مما يصدقون أي وسيلة اعلامية اخرى. وهم لا يعون ان الانترنت، في اسوأ حالاتها، ليست سوى مزبلة مفتوحة: انها مجرد انبوب الكتروني تمر عبره المعلومات غير الموثوقة والمنفلتة.

والاسوأ من ذلك، انك بدلا من ان تكون معزولا وانت غارق في آرائك المتطرفة، فان الانترنت تربطك بمجموعة من الناس الموجودين في كل انحاء العالم، من اولئك الذين يكرهون كل الاشياء وكل الاشخاص الذين تكرههم انت. ويمكنك في هذه الحالة ان تشطب الـ«بي بي سي» من عالمك، وان تكتفي فقط بالمواقع على الانترنت التي تؤكد لك صحة آرائك ووصفاتك الجاهزة.

قبل عامين او نحو ذلك، قام اثنان من طلاب الجامعة الفلبينيين بنشر فيروس «أنا احبك» من خلال الانترنت وألحقوا خسائر بمليارات الدولارات باجهزة الكومبيوتر وبرامج السوفتوير، ولكن ذلك الفيروس يمكن معالجته بالبرامج الملائمة من السوفتوير. ولكن هناك فيروساً آخر، اكثر خطورة ينتقل حاليا عبر الشبكة. إنني اسميه «فيروس أنا اكرهك». وهو ينتشر عبر الانترنت ومن خلال القنوات الفضائية، ويصيب عقول الناس باكثر الافكار ضررا واوغلها في الشر، ولا يمكن التصدي له بمجرد الحصول على السوفتوير المناسب. انه لا يمكن مداواته الا بمزيد من التعليم وبرامج التبادل والدبلوماسية والتفاعل الانساني. وهذا الـ«سوفتوير» لا يمكن الحصول عليه الا بالطرق التقليدية، من فرد الى فرد. ودعونا نامل في ان الوقت لم يعد متأخرا على انجاز هذه المهمة.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»