«المؤتمر الدولي».. آلية لإنضاج مرجعية سلام جديدة

TT

في غابر الأزمان.. غداة حرب أكتوبر 1973، وقبل مؤتمر مدريد، وقبل انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، كان يمكن أن ننظر إلى موافقة الولايات المتحدة على فكرة أو اقتراح عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط على أنها معجزة سياسية، تستحق أن يقيم لها العرب الأفراح والليالي الملاح: أمّا اليوم فالقوة العظمى في العالم هي التي تدعو إلى عقد مثل هذا المؤتمر، فترد الدول العربية بالإعراب عن خوفها وخشيتها وقلقها، داعية إدارة الرئيس بوش إلى توضيح مبادرتها، شكلا ومحتوى، علّها تطمئن إلى أن المؤتمر، الذي نمت فكرته في رحم حرب «السور الواقي» الشارونية، لن يكون مقبرة تُدفن فيها، في حضور عربي ودولي، «مرجعية مدريد»، واتفاقية أوسلو الأم وبناتها.

إننا نميل إلى فهم فكرة «المؤتمر الدولي» على أنها تعبير عن عزم الولايات المتحدة على وضع مرجعية جديدة لمفاوضات سلام وتطبيع شاملين بين إسرائيل والدول العربية، تُسوّى في سياقها المشكلات الكبرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في طريقة فيها من «الإبداع الدبلوماسي والسياسي» ما يستلزم تخطي التصورات والمبادئ القديمة حتى يغدو ممكنا كسو عظام «تصور دولة فلسطين»، الذي اقترحه الرئيس بوش، لحما.

ولسوف تسترشد «دبلوماسية السلام الجديدة» بجملة من المبادئ الجديدة، من أبرزها: تعزيز الطابع اليهودي للتكوين الديمغرافي لدولة إسرائيل، وأن يكون إقليم دولة فلسطين مساويا تماما في مساحته للضفة الغربية وقطاع غزة.

والأهم من هذين المبدأين هو الصلة العضوية لكلاهما بالآخر، فإسرائيل ستكون مدعوة إلى الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 242 : ولكن انسحابها لن يكون حتى خط الرابع من حزيران 1967، فالكتل الاستيطانية الكبرى ستُضم مع «الأحياء اليهودية» في داخل القدس الشرقية إلى أراضي الدولة العبرية.

وعملا بمبدأ «التبادل الإقليمي»، يُمنح الفلسطينيون النسبة ذاتها من أراض إسرائيلية، على أن يتم في إطار هذا التبادل اصطياد عصفورين بحجر واحد: حل مشكلة «حق العودة» للاجئين الفلسطينيين، وتعزيز الطابع اليهودي للتكوين الديمغرافي لدولة إسرائيل.

إنّ ذلك يقتضي، أولا، السماح بعودة قسم من اللاجئين (المقيمين في لبنان على وجه الخصوص) إلى المنطقة التي يقيم فيها الجزء الأكبر مما يسمى «عرب إسرائيل»: ثم ضم هذه المنطقة إلى إقليم دولة فلسطين، فالتبادل الإقليمي المتكافئ يجب أن يؤول إلى تبادل ديمغرافي غير متكافئ.

وفق هذه التسوية، لا يحدث تجاوز للخطوط الحمراء الإسرائيلية والفلسطينية، ويمكن الادعاء بأن قرارات الأمم المتحدة ولا سيما القراران 242 و 194 قد نُفّذت، وانتهى، بالتالي، النزاع إلى الأبد.

إنّ الوضع الجديد الناشئ عن الحملة الحربية الشارونية لا يسمح للحلول الأمنية الصرف بالنجاح، كما لا يسمح بنجاح أنصاف الحلول أو الحلول الجزئية والمرحلية والانتقالية، فالتناقضات تفاقمت حتى صار حلها والخروج منها رهنا بالتوصل سريعا إلى اتفاق سياسي شامل، يحل كل المشكلات الكبرى، كمثل اللاجئين والقدس الشرقية والحدود والمستوطنات، دفعة واحدة وفي شكل نهائي، فسياسة المراحل ما عادت طريقا موصلا إلى الحل النهائي، أي أن «المرحلية»، وفي أفضل الأحوال، يمكن أن تقوم لها قائمة في إطار تنفيذ اتفاق الحل النهائي فحسب.

لقد تأكد، الآن، أن اتفاقية أوسلو وكل ما تفرع منها من اتفاقيات قد صممت في طريقة تضطر كلا الطرفين إلى أن يدخل المفاوضات وهو أشد تمسكا بأرصدته السياسية، وأكثر احتياجا إلى لعبة التسخين التفاوضي مع ما يترتب على هذه اللعبة من تنصل من الالتزامات ومن تبادل للخروق والاتهامات.

المرجعية السياسية القديمة للمفاوضات كانت في غموض وإبهام نصوصها، وفي الطابع التجريدي لهذه النصوص، كمثل دعوة إلى الحركة في أي اتجاه، وكأن الحركة هي كل شيء بينما الهدف النهائي لا شيء.

الآن، ثبت وتأكد أن الحركة يجب أن تكون في اتجاه هدف نهائي واضح ومحدد لكلا الجانبين، فرؤية الحد النهائي للمفاوضات صارت شرطا للتقدم على طريق السلام.

ثبت، الآن، وتأكد أن غياب الاتفاق على تصور واضح ومحدد لكيفية تسوية المشكلات الكبرى، المسماة مشكلات الحل النهائي، هو الذي يملي على كلا الطرفين الذهاب إلى طاولة المفاوضات وكأنه ذاهب إلى الحرب، كما يجعل الحلول الجزئية والمرحلية والانتقالية أقصر طريق إلى استئناف الصراع بالحديد والنار.

بيد أن أهم ما ثبت وتأكد، في ضوء تجربة مفاوضات كامب ديفيد وطابا، أن الطرفين لا يمكنهما التوصل إلى اتفاق سياسي شامل عبر المفاوضات المباشرة ولا حتى بمساعدة وسطاء دوليين، فهذا الشكل من المفاوضات يمكنه، في أحسن الأحوال، أن يثمر اتفاقات جزئية من قبيل تلك الاتفاقات التي بذرت بذور الحرب.

إنّ الحل الوحيد الممكن، على صعوبته، هو الذي يفرضه المجتمع الدولي وقواه الكبرى فرضا على الطرفين.. هو الحل الذي يراعي الحقوق الأساسية بعد تكييفها وفق حقائق الواقع الجوهرية، ذلك لأن الحل الدولي المفروض لا ينجح إذا كان مفروضا، في الوقت عينه، على الواقع، فاتفاق هذا الحل مع الحقائق الكبرى للواقع هو شرط النجاح في فرضه على الطرفين.

الحلول الجزئية والمرحلية والانتقالية مع المفاوضات المؤدية إليها ولّت إلى غير رجعة، وباتت العودة إليها، بعد كل الذي حدث، ضربا من المستحيل: أمّا الحرب الشارونية، التي فاقت بعنفها وشراستها كل التوقعات، فقد فشلت في تحقيق أي إنجاز سياسي لمصلحة إسرائيل: لأنها لم تتمكن من النيل من قوة الإرادة السياسية للفلسطينيين.

وينبغي للمجتمع الدولي وقواه الكبرى والفاعلة استخلاص الدرس الأهم، وهو أن لا حل عسكريا لهذا النزاع التاريخي والوجودي، وأن لا حل له، أيضا، عبر المفاوضات الثنائية المباشرة. الحل يكمن في أن يأخذ المجتمع الدولي وقواه الكبرى زمام المبادرة، فيفرضوا حلا نهائيا على الطرفين، تؤيده وتسنده حقائق الواقع الأساسية.

كل ما جاءت به اتفاقات السلام القديمة من وقائع وحقائق جديدة، كمثل «المناطق A» بخواصها وسماتها المختلفة، صار أثرا بعد عين: أمّا الحل «خطوة خطوة» فقد بلغ بالطرفين نهايته المنطقية (غير المستحبة، وغير المتوقعة) وهي هذه «الهوّة السحيقة»، التي نراها، الآن، والتي لا يمكن اجتيازها وعبورها، خطوة فخطوة، ولا بقفزتين اثنتين، أو بثلاث أو أربع قفزات.. إنها كمثل كل هوّة لا يمكن اجتيازها وعبورها إلا بقفزة واحدة فحسب.. بقفزة كبرى.

لقد وقع «خيار السلام» بين الإسرائيليين والفلسطينيين بين مطرقة «المفاوضات» وسندان «العنف» حتى كاد يسقط صريعا، فالمفاوضات بين هذين الطرفين، المتصارعين صراعا وجوديا وغير المتكافئين عسكريا، فشلت فشلا ذريعا في أن تكون طريقا إلى السلام، محرزة، في الوقت نفسه، النجاح تلو النجاح في إظهار وتعميق وتوسيع الخلاف والنزاع، وفي إنتاج اتفاقات عامة، مجردة، تصلح لتسوية أي نزاع، في أي مكان وفي أي زمان، فلا تصلح، بسبب ذلك، لتسوية نزاعهما التاريخي الخاص. المفاوضات كشفت وأكدت عمق النزاع، والصعوبة الكبرى في جسر الهوّة بين الطرفين: أمّا الاتفاقات، التي أثمرتها، فكانت من النمط، الذي يجعل كلاهما يرى فيها وعدا بتحقيق ما يريد حتى إذا وُضعت موضع التنفيذ انفجرت وكأنها قنبلة موقوتة، مفجرة كل ما أنجز من قبل.

كل جولة من المفاوضات كانت تحبل بجولة جديدة من الصراع بالحديد والنار: وكل جولة من هذا الصراع كانت تعيدنا إلى طاولة المفاوضات، لنبدأ بالتفاوض، ليس من حيث انتهينا: وإنما من حيث بدأنا، وكأن المسار، الذي لا نملك تغييرا له، هو: مفاوضات، فاتفاقات، فحرب: ثم مفاوضات، فاتفاقات، فحرب.

إنّ ما من دولة أو شعب يريد الحرب: ومع ذلك ظلت الحروب قائمة ومشتعلة، الدول كافة لا تلجأ إلى الحروب إلا عندما تعجز عن تحقيق ما تريد سلما، أي عبر المفاوضات: ولكن الحاجة إلى خيار تسوية النزاعات عبر التفاوض لا تظهر وتشتد إلا في وجود تكافؤ في ميزان القوى العسكري: أمّا إذا كان هذا التكافؤ غير موجود فإن الطرف القوي يميل إلى استخدام القوة العسكرية في سعيه إلى تحقيق ما يريد بينما الطرف الضعيف يميل إلى المقاومة العسكرية.

ويكفي أن ننظر إلى قضايا الحرب والسلام هذه النظرة حتى يتضح لنا سبب مأساة التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتحول المفاوضات من وعد بالسلام الأبدي إلى وعد بالحرب الأبدية.

لو كان هناك تكافؤ في القوى بين الطرفين الساعيين إلى تسوية نزاعهما الوجودي لقامت مفاوضات مثمرة لاتفاقات واضحة، محددة، يمكن أن تشق طريقها إلى التنفيذ من دون الوقوع في فخ «حرب التفسير والتأويل».

هذا التكافؤ الضروري لمفاوضات ناجحة، ولسلام دائم، غير موجود: وما دام غير موجود، وغير ممكن الوجود في الوقت الحاضر، فخيار التفاوض سيظل عقيما، وخيار الصراع بالحديد والنار سيظل قائما، أي أن مهزلة المفاوضات ومأساة الحرب ستظلان في وحدة عضوية، تسمح لكلتيهما بالتحول إلى الأخرى.. إلى أن تقتنع القوة العظمى في العالم بأن الحل الوحيد هو الحل الذي يقع في منزلة بين المنزلتين.. بين «الحل الإسرائيلي» المرفوض فلسطينيا و«الحل الفلسطيني» المرفوض إسرائيليا. إنه، بالتالي، الحل المفروض دوليا، الذي يتحقق مرة واحدة، وإلى الأبد.

* كاتب فلسطيني ـ الأردن