معاداة السامية.. الحقيقي والمتخيل

TT

يجب أن أعترف بأنني كدت أصاب بالاختناق قبل أسابيع قليلة، أثناء مشاهدتي بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، وهو يتحدث الى اعضاء مجلس النواب الاميركي. ولم يكن شعوري ذاك ناتجا عن الصورة المشوهة التي رسمها للحقائق في المناطق الفلسطينية المحتلة، ولم يكن بسبب مقارناته الاستئثارية والمضللة، بشكل مكشوف، بين عرفات واسامة بن لادن. كما لم يكن ناتجا عن اصرار نتنياهو على عدم وجود حل سياسي للإرهاب، بل حل عسكري فقط، وهو زعم يتبين سخفه من حقيقة انه بعد عقود من محاولة احلال السلم عن طريق الدبابات والمدافع، يشعر معظم الاسرائيليين بأنهم باتوا، الآن، اقل امنا من ذي قبل. كما يُبطل هذا الزعم حقيقة ان هذه الاعمال العسكرية نفسها اعمال ارهابية، لكن هذه قصة اخرى.

بعد دقائق معدودة من الاستماع الى خطابه، الذي تشبه نغمته نغمة المشتغلين بالتسويق ـ ومضمونه رجاء الولايات المتحدة رجاء حارا لكي تعطي اسرائيل النور الأخضر لأي مستوى من التقتيل تراه ضروريا في الضفة الغربية ـ وجدت نفسي تحت ضغط شعور غير صحي ومزعج في آن معا.

كان شعوري مزيجا من الخزي والنقمة العميقين، لكوني انا وهذا الرجل ننتمي الى دين واحد، أي لأني وهو، نشترك في ارث ديني واحد، أي لأن بيننا نوعاً من القرابة بشكل ما، وفي اثناء ما كان يتكلم ـ ليس باسم اسرائيل، كما تسمع اكثر قادة اليهود الاميركيين يرددون، بل باسم اليهود جميعا ـ شعرت بوخزات الشعور بالذنب الجمعي تتعالى في داخلي بطريقة لم أشعر بها من قبل. وهذا أمر مأساوي، بالطبع، فمن هو هذا الدعي حتى يتحدث باسمي؟ ومن كلفه بهذه المهمة، بل من كلف أي قائد اسرائيلي آخر ليكون «المتحدث باسم اليهود»؟ ومَنْ الذي جعل الصهيونية مرادفا لليهودية، ثم قرر ان معنى ان تكون يهوديا هو ان تؤيد اسرائيل في سحقها لحقوق الفلسطينيين، أو ذبحها للأطفال الأبرياء تحت عنوان القضاء على الارهاب، أو اطلاق جيش الدفاع الاسرائيلي النار على سيارات الإسعاف لضمان ان يموت اولئك الجرحى بطريقة بطيئة، بدلا من تلقيهم الاسعافات الطبية التي يضمنها لهم القانون الدولي وتضمنها لهم العناصر الاساسية للياقة الانسانية؟ فمن هو نتنياهو حتى يجعلني أشعر بالذنب بصفتي يهوديا؟

تتمثل الاجابة عن هذه الأسئلة جميعها، بكل أسف، في أن هذا الجمع الذي يتصف بالمفارقة بين كارهي اليهود، بصورة علنية، وبين مناصري اسرائيل من اليهود، هو الذي غرس الاعتقادات المذكورة سابقا في نفوس كثير من الناس. فيصر النازيون الجدد، مثلا، على أن اليهود كلهم صهاينة ثم يؤيدون الأعمال التي تقوم بها اسرائيل، وهو زعم يسمح لهم بأن يواروا آراءهم المغرقة في الكراهية عن الشر الذي تبثه اليهودية، وهو زعم لا يقيم اعتبارا للتفكير النقدي.

ومن جهة ثانية، فإن محو الحدود الفاصلة بين اليهودية، بصفتها تقليدا دينيا وثقافيا يمتد الى ماض عمره خمسة آلاف سنة وخمسمائة سنة، أو بين الصهيونية، وهي حركة سياسية وفكرية لا يزيد عمرها عن قرن وربع القرن، ينبع كذلك من فعل كثير من المنتمين الى الجماعات اليهودية المنظمة نفسها.

إن هذه الجماعات نفسها هي التي سعت الى اسكات نقد اليهود لاسرائيل والنشاط الصهيوني مستخدمة شعارات مثل «معاداة السامية»، أو «كره النفس». انه رئيس الاتحاد اليهودي في نيوأورليانز الذي اقترح في اوائل التسعينات عزلي من منصبي في المنظمة المناهضة لرئيس النظام العنصري لجنوب افريقيا، ديفيد ديوك، لأنني كتبت مقالا أنتقد فيه اسرائيل على تأييدها لسياسة التمييز العنصري التي كانت تتبعها حكومات جنوب افريقيا. اذ يرى هذا الرجل، ان نقدي لاسرائيل جعلني افضل قليلا من ديفيد ديوك نفسه: وهو، ديفيد ديوك، الذي قال انه ينبغي على اليهود «ان يذهبوا الى مزبلة التاريخ»، وهو الذي يقيم حفلات في منزله احتفاء بعيد ميلاد هتلر، ويصف المحرقة بأنها «سخف».

ينظر الصهاينة والنازيون الى اليهود جميعا كأنهم شيء واحد، أما محاولة التمييز بين مفهومي الصهيونية واليهودية، أو بين مناوأة الصهيونية ومعاداة السامية، فمحاولتان محكوم عليهما بالفشل عند الفئتين. وكما فسر ذلك أحد كتاب مجلة كومنتري: فإن «تشويه اسرائيل تشويه لليهود».

لكن من الضرورة بمكان أن نفصل بين هذين المفهومين، أي أن نوضح انه يمكن لنا أن نعارض الصهيونية من غير أن نقع في التحيز ضد اليهود، بصفتهم يهودا، كما يمكننا ان نوضح ان تأييد اسرائيل لا يمنع الانسان بالضرورة من أن يكون مدانا بمعاداة السامية.

ويتواكب تأييد (أولئك لإسرائيل)، في الواقع، مع كرههم الفطري العميق لليهود. انظر مثلا الى ما قاله (الداعية المسيحي) بيلي جرام، الذي كشفت عنه محادثة مسجلة بينه وبين الرئيس الاميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، يعبر فيها عن حبه لاسرائيل فيما هو يشتكي بصخب من «وسائل الاعلام التي يسيطر عليها اليهود»، ويوجهونها لخدمة مكائدهم السياسية السرية الخبيثة.

والواقع كذلك ان اكثر الاصوليين المسيحيين، في الوقت الذي يعلنون فيه عن حبهم لاسرائيل، يعلنون عن اعتقادهم بأن المصير الذي ينتظر اليهود هو العذاب في بحيرة من النار (في الآخرة) إن لم يؤمنوا بالمسيح. وبكلمات أخرى، إن لم يتوقفوا عن أن يكونوا يهودا.

لذلك يتصف انتماء هؤلاء للصهيونية بأنه انتماء انتهازي في أحسن الأحوال، انه انتماء ينطلق من أملهم بأنه بمجرد عودة اليهود الى اسرائيل، سيظهر المسيح الموعود مباشرة، حاكما في اثناء ذلك على اليهود بدخول جهنم. كما ان هدفهم التبشيري لتحويل اليهود الى المسيحية نفسه معاد، من حيث الجوهر، لليهود، بغض النظر عن «حبهم» للأرض. اذ سيعني تحويل اليهود الى المسيحية اكمال الإبادة الروحية لليهود، اي القضاء على اليهودية قضاء مبرما.

وربما لا يمكن لنشاط هؤلاء المبجلين، المتمثل في غرس الأشجار في اسرائيل، أو الدعاء من اجل بقائها، أن يعوض عن رغبتهم في القضاء على اليهودية، وهو ما يشبه الهدف الذي أراد هتلر تحقيقه. ومع هذا فلم يحتج على بيلي جرام إلا عدد محدود من المنظمات اليهودية، كما أنها لم تبد قدرا كبيرا من الاعتراض على الدعايات المعادية للسامية المتضمنة في الخطاب الدعوي للأصولية المسيحية، كما تقدم. وربما ألهاهم عن ذلك أنهم كانوا منشغلين بالسعي لكي يجدوا قبولا من الأغلبية، أو ربما يعود الى اعترافهم بجميل أولئك كما تقدم.

ففي مؤتمر جمعية الشؤون العامة الاسرائيلية ـ الاميركية (أيباك)، الذي انتهى قبل أيام، عبر الأشخاص أنفسهم، ممن يصنفون معارضة اسرائيل في خانة معاداة السامية، عن تأييدهم لعضو مجلس النواب اليميني، توم داشل بالتصفيق له وقوفا، فما السبب وراء ذلك؟ يعود السبب الى قوله ان من حق اسرائيل الاستيلاء على الضفة الغربية، التي أطلق عليها الاسمين التوراتيين يهودا والسامرة. والى قوله في اوائل هذا الشهر ان المسيحية هي «الإجابة الوحيدة المتصفة بالحيوية والمعقولية والنهائية» لقضايا الحياة الرئيسية ـ وهو حكم ينضح بالاحتقار لكل اليهود ممن يزعم انه يهتم بهم هذا الاهتمام ـ ومن الواضح انه قول لا يداني من حيث الأهمية لدى البعض أهمية تأييده النبوئي لـ «الأرض»، أرض اسرائيل.

ومن الطبيعي ان وراء هذا كله منطقا معينا. فلم يكن هم الصهاينة الأوائل إلا الاستحواذ على الأرض وحسب، اذ لم يكونوا يعانون من مشكلة معاداة السامية، نفسها، بل كانوا، في حالة ثيودور هيرتزل وحاييم وايزمن، يزعمون، على وجه الدقة، أنهم يتفهمون معاداة السامية ويتعاطفون معها. وكما لاحظت، فيما سبق، فإن هيرتزل (وهو مؤسس الحركة الصهيونية) نفسه هو الذي تفوه بأشد انواع كره الذات ومعاداة السامية، حين لاحظ ان معاداة السامية كانت «رد فعل مفهوما على النواقص التي يتصف بها اليهود».

والواقع أن استمرار محو الحدود الفاصلة بين الصهيونية واليهودية، خطر حقيقي يتهدد المجتمعات اليهودية. ذلك انه طالما ظل الصهاينة يصرون على وجود صلة موروثة بين الاثنتين، فسوف يؤدي هذا الى جعل مزيد من نقاد اسرائيل يسعون الى محو هذه الحدود الفاصلة، مما ينتج عنه تحويل الإدانة المحقة للاستعمار والعنصرية والإمبريالية الى ادانة تشمل اليهود بصورة عمياء كذلك.

فقد وقعت في الأسابيع الأخيرة بعض اعمال التخريب والتشويه لأماكن العبادة والمقابر اليهودية، وهي التي يبدو انها كانت اعمالا احتجاجية ضد الاجتياحات والاعتداءات الاسرائيلية الأخيرة، ووقعت في اماكن متباعدة مثل تونس وفرنسا وبيركلي في كاليفورنيا.

كما ظهرت الى العلن مرة اخرى بعض الدعايات المعادية للسامية، مثل خدعة القيصر، وبروتوكولات حكماء صهيون، التي يُزعم أنها «تبرهن» على مؤامرة اليهود من أجل السيطرة على العالم، بل ظهرت بعض النتف من هذه الدعايات المسمومة حتى في مواقع الانترنت التقدمية مثل موقع Indymidia، وهو موقع يتبنى الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.

وضمن المبادرة التي يمكن تفهمها لإدانة الأعمال التي تقوم بها اسرائيل وزعت احدى حلقات النقاش عبر الانترنت التي يديرها واحد يدعي انه ناشط يساري/ تقدمي، احد مقالات ديفيد ديوك المتعلقة بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو مقال يزخر بأنواع القدح لليهود، وهو عمل يهدد بالطبع وثوقية مرسلي هذا المقال وعدالة كفاحهم من اجل فلسطين.

ومن المؤكد ان الواجب على كل من ينتقد اسرائيل ان ينتقد من غير تحفظ مثل هذه التصرفات المعادية لليهود كلها، ليس ذلك انها مكروهة لذاتها فقط بل لأنها تعمل على المساعدة في تعميم الكذبة التي تروجها حكومة اسرائيل ومناصروها، وهي أن هؤلاء (اسرائيل ومناصريها)، هم اليهود، وأن اليهود هم. وهي فكرة تضعف الكفاح ضد الاحتلال، لأنها تجعل أي نوع من النقد لإسرائيل كأنه موجه ضد اليهود، ويحتمل ان ينتج عنه تعريض المجتمعات اليهودية لخطر اعظم، ذلك أنها تجعل أولئك (نحن) يبدون بازدياد كأنهم يضعون اسرائيل أولا، بدلا من النظر اليهم بصفتهم اناسا يوجهون همهم الأول لمبادئ السلام والعدل والمساواة، وهي المبادئ التي تعلمت في المدرسة العبرية انها مهمة جدا لبقاء اليهود.

وأكثر من ذلك فإن التغاضي عن معاداة السامية داخل الحركة المنادية بالعدالة في الشرق الأوسط، عمل يتهدد بالخطر الشعب الفلسطيني نفسه الذي نعمل جميعا لأجل الدفاع عنه. وبقدر ما تتسرب الألفاظ والتعابير والصور البلاغية المعادية لليهود الى الخطاب المناهض للاحتلال الاسرائيلي والوحشية الاسرائيلية، يتمكن شارون من تحويل سعيه المجنون نحو القوة والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية الى حرب هدفها الدفاع عن بقاء الأمة اليهودية.

وبقدر ما يتحقق من نجاح في تصوير النقاش بهذه الصورة يتجاوز يهود اسرائيل ومناصروها في الولايات المتحدة، الحدود المعقولة، حتى يصلوا الى مستويات كثيفة من العنف، والى مزيد من اعمال القتل والتدمير التي يتعرض لها ضحايا الاستعمار الاسرائيلي.

ليكن من الواضح ان المسألة الصهيونية لا تتمثل في كونها قومية يهودية، بنفسها، بل في كونها شكلا من أشكال التفوق العرقي من حيث الفكر والعمل، واكثر من هذا، انها شكل من أشكال التفوق العرقي الاوروبي الذي يهدف الى السيطرة على الآخرين.

وبعد ذلك كله فقد عاش بعض اليهود في فلسطين وفي البلدان القريبة من فلسطين باستمرار لآلاف السنين، من غير أن يحدث بينهم وبين جيرانهم من العرب والمسلمين أي خلاف مهم، وبالمثل فقد عاش كثير من اليهود تحت حكم المسلمين في الامبراطورية التركية، حيث كانوا يحظون بصفة عامة بقبول دافئ، بل كانت معاملتهم أفضل بكثير من المعاملة التي كانوا يجدونها من الأوروبيين المسيحيين، وهم الذين استمرأوا طردهم من مكان إلى آخر.

وهؤلاء اليهود، بعكس اليهود الأوروبيين، الذين سعوا الى الحلول مكان هؤلاء العرب في بلادهم، عاشوا هناك بسلام، ولم يسعوا الى التفكير في مشاريع كبرى من اجل تأسيس «اسرائيل الكبرى»، وهم لم يخلقوا فكرة الصهيونية، ولم يقودوا العمل من أجل تأسيس دولة يهودية، ومن اجل ذلك فقد كان هذا الأمر نتيجة لعمل الجماعات اليهودية الغربية الأوروبية، وبصراحة، البيضاء.

فهذه المشكلة لم يتسبب في حدوثها أولئك اليهود الأكثر انتماء الى ارض اسرائيل، أو أولئك الذين ينتمون الى افريقيا، أو اقطار اسيا الصغرى، وباختصار، اولئك الذين يتصفون بأنهم أكثر انتماء الى الأقوام السامية. كما ان المشكلة لم تتمثل في المعتقد، أما ما حرك نار الصهيونية وغذاها فلم يكن الا تلك العقلية الاستعمارية الواضحة، التي كانت هي نفسها نتاجا مصاحبا للفكر والثقافة الاوروبيين منذ الثمانينات من القرن التاسع عشر وما تلاها. فالمسألة الصهيونية شكل من أشكال الهيمنة الغربية البيضاء المتعالية.

ومثلها مثل كل ألوان التفوق الأبيض، تجاهلت واحدة من أكثر المفارقات الواضحة جلاء، وهي العلاقة النسبية الوثيقة بين المسيطرين والمسيطر عليهم، أي حقيقة ان المهيمِن ينتمي الى الأسرة نفسها التي ينتمي اليها المهيمَن عليهم.

وكما بينت الابحاث الاخيرة، فليس هناك اختلاف بيولوجي لافت للنظر بين الفلسطينيين واليهود في الشرق الأوسط. ومن هنا فأي يهودي ذي اصول سامية انما هو عربي، ان كانت لمثل هذا القول أي قيمة اطلاقاً. وهذا جميعه يعني ان الصهيونية وآثارها، نتيجة لما أوقعته من شقاء بالفلسطينيين، ربما تكون أكثر أشكال معاداة السامية عمقا وتجذرا في الأرض اليوم.

* نشر هذا المقال في الموقع الالكتروني لمجلة «Z» في 30/4/2002. والكاتب ناشط سياسي أميركي من أصل يهودي وله كتابات عديدة يدافع فيها عن حقوق الفلسطينيين.