نقد للذات .. أم جلد لها؟

TT

هل صحيح أننا انصرفنا عن علوم المستقبل وشغلنا أنفسنا بالمناقشة حول جنس الملائكة، ذكر أم أنثى؟ وهل صحيح ان الاعلام العربي يعيش على «التسول» من وكالات الانباء العالمية، وان الصحافيين العرب لا يجدون إلا «الجعجعة» وإثبات البطولات على الورق؟

شغلني هذا السؤال بعدما قرأت مقالين في «الشرق الأوسط»، احدهما كتبه الدكتور خالص جلبي في 5/8 وأثار الملاحظة الاولى ضمن ملاحظات اخرى، والثاني كتبه الدكتور مأمون فندي ونشر يوم 6/5 وتحدث فيه عن الملاحظة الثانية.

حين ألقيت على نفسي السؤال الاول حرت جوابا لأنني اعيش في مصر التي يبلغ تعداد سكانها 68 مليون نسمة، ولم اسمع او اقرأ ان احدا تحدث عن مسألة جنس الملائكة، كما أنني احد الذين يطوفون طول الوقت بأغلب العواصم العربية، وأتابع بدرجة أو أخرى الحوارات الجارية على صفحات الصحف العربية. ولم اصادف أحدا مشغولا بذلك الموضوع. نعم لا استطيع ان أقرر بصورة قاطعة ان مثل هذه المناقشة لا وجود لها في العالم العربي، ولا استبعد ان يكون هناك من شغل بجنس الملائكة، لكن الذي استطيع ان اقطع به ان مثل هذه المناقشة لا تمثل ظاهرة يمكن رصدها في اي مجتمع عربي. صحيح ان كثيرين منا ليسوا مشغولين بالمستقبل وعلومه. وتلك منقصة لا ريب، إلا أننا لسنا بتلك الدرجة البائسة التي تجعلنا نستعيض عن حوارات المستقبل بالجدل حول ما إذا كان الملائكة ذكورا أم اناثا! حين تأملت الملاحظة الثانية وجدت انها لا تقل في ظلمها وافتئاتها عن الاولى، اذ ليس صحيحا ان الاعلام العربي «يتسول» تقاريره واخباره، فالفضائيات العربية كانت سباقة ورائدة في متابعة ما يجري في افغانستان وفي الارض المحتلة. وفي وقت ما كانت بعض القنوات الفضائية العالمية هي التي «تتسول» موادَ اعلاميةً من الفضائيات العربية، بل ان النجاح الذي حققته الفضائيات العربية في متابعة ما يجري بالارض المحتلة كان له تأثيره المشهود في شحن العالم العربي وتعبئته، ورفع درجة التضامن مع القضية الفلسطينية، حتى قلت ـ وقال آخرون غيري ـ ان الفضائيات اعادت تعريب القضية ونجحت في تعرية كل حقائق المشهد وكشف مواقف كل الاطراف، فعرفنا من هم الظلمة والمفترون، ومن هم الغوغائيون، ومن هم المنافقون، ومن هم المناضلون الحقيقيون، الامر الذي دفعني الى التساؤل عن دوافع التهوين من شأن الاعلام العربي والحط من دوره، في حين يُتوقع من أهل الرأي والانصاف ان يسجلوا تقديرهم للدور الذي قام به الاعلاميون العرب وتشجيعهم لمحطات البث التي اعرف حجم المشقة التي يتكبدها مندوبوها في تغطية الاحداث على الطبيعة.

لقد عمم الاتهام على الجميع، ولو انه فُرِّقَ بين التلفزيون والصحافة لكان اكثر موضوعية وانصافا. وبالمناسبة فإنني لا انكر ان في الصحافة العربية جعجعة واعلانات سياسية، والكثير من النقائص التي يعرفها خبراء اهل المهنة ويلحظها كثير من القراء، ومع ذلك أسأل: ألا يوجد في الصحافة العربية شيء آخر غير الجعجعة؟ ثم هل الاعلانات السياسية الموجودة في الكثير من الصحف تُحمّل على الصحافة أم على ضغوط السياسة ووطأتها الثقيلة في العالم العربي؟

ليس عندي دفاع لا عن الضعف العربي ولا عن الاعلام العربي، لكن أوردت السؤالين السابقين للتدليل على شيء آخر لاحظته في بعض الكتابات التي ظهرت حديثا، يتمثل في ميل بعض الكتاب الى التقريع وجلد الذات، والمبالغة في تصوير البؤس العربي، على نحو يصب في مجرى التثبيط وتهوين العزائم، وهو خطاب اقل ما يمكن ان يوصف به انه غير صحي، وفيه من الضرر اكثر مما فيه من النفع.

أدري اننا بحاجة الى المصارحة ونقد الذات، لكن هناك فرقا شاسعا بين نقد الذات وجلد الذات، والنقد يستهدف التقويم بينما الجلد لا هدف له سوى التعذيب والتيئيس.

لقد اعتبر خالص جلبي انه يقوم في المراجعة النقدية التي قدمها بدور الطبيب الذي يصارح مريضه بحالته الخطيرة، ولو ان الامر كذلك حقا لما كان لي ان اعقب على ما ذكره، ولكنني ازعم ان الامر لم يكن مصارحة، وان كلامه جاوز الحقيقة، والنموذج الذي اشرت اليه دليل على ذلك، وهو واحد من اشارات عديدة تراوحت بين عدم الدقة والافراط في القسوة، كما سنرى توا.

اما الدكتور مأمون فندي فقد حدثنا كأميركي يتعامل مع العرب بتعبيرات ومشاعر تراوحت بين الاستياء وعدم الاحترام، وفي مقاله لم يذكر للعرب ولا لاعلامهم فضيلة واحدة، بل اعتبر الاعلام العربي عاجزا وخائبا، اما الاعلاميون الغربيون ففي رأيه ان العرب لا يستطيعون اتهامهم بالتقصير في عملهم، فتقاريرهم «متميزة» في حين ان الصحافي العربي ـ هكذا بالمطلق ـ فإنه يجلس وراء مكتبه المكيف ليكتب خطبة عصماء يلطم فيها الخدود ويشق الجيوب.. الخ.

ليس عندي تعليق على كلام الدكتور فندي أكثر مما قدمت. وما همني في خطابه فقط تسجيل خطابه الذي جلدنا فيه بأكثر مما انصفنا. وهذا الجلد عبّر عنه من موقع آخر الدكتور خالص جلبي، الذي تطرق الى موضوعات عدة، ولم يكتف بموضوع واحد كما فعل الكاتب الاول، الذي صب جام غضبه وحصر استياءه في كل آراء الاعلام العربي. ولأن الدكتور جلبي طرق موضوعات عدة عبّر فيها عن آراء تستحق المراجعة فقد وجدت ان الامر مع ما قال لا بد ان يختلف، حيث لا يكفي اثبات الحالة كما حدث مع الدكتور فندي، وانما يتعين تفنيد وتصويب ما اورده من حجج وخلاصات.

وهو يجلدنا، امتدح فندي الديمقراطية الاسرائيلية، ولأن عين السخط كانت من نصيب اوضاعنا وحدها، فإنه لم ير ان تلك الديمقراطية ظالمة واستعلائية ومتوحشة، سوّغت الاحتلال والاجتياح وكل ما ارتكب من فظائع ليست خافية على احد، ولم يلاحظ انها ديمقراطية عنصرية، لليهود وحدهم، وليس فيها للعرب نصيب، والقدر الذي اعطي منها للعرب كان من قبيل التجميل وتبييض البعض امام العالم الخارجي لا اكثر.

ليس عندي دفاع عن الديكتاتوريات في بلادنا بطبيعة الحال، لكني ازعم ان المقارنة بينها وبين الحاصل في اسرائيل لا تكون مقابلة بين وضع جيد عندهم وسيئ عندنا، لأنها في حقيقة الامر بين وضع سيئ هناك وأسوأ عندنا.

واعود الى مقال الدكتور جلبي، حيث استمر مسلسل الجلد في فقرة ذكر فيها ان الجيوش العربية جربت حظها ـ في الصراع ضد اسرائيل ـ فلم تحصد سوى الهزائم الخارجية والديكتاتوريات الداخلية وإنفاق تريليون دولار على التسليح، وحين جرب الفلسطينيون حظهم للافلات من قبضة الاحتلال كان نصيبهم الدمار والدموع والدماء. وانتقل بعد ذلك الى القول انه من اعتمد البندقية للخلاص تصبح مع الوقت اللغة التي يحسن التكلم بها، فالجزائر قدمت مليون شهيد فلم تحصد سوى البؤس والديكتاتورية، وافغانستان خسرت مليونا ونصف المليون قتيل وسبعة ملايين لاجئ ولم تحصد سوى الخراب.

اضاف الكاتب، وفي الوقت الذي تحررت فيه فيتنام بخمسة ملايين قتيل، سرحت اليابان جيشها البالغ خمسة ملايين جندي، واستسلمت بدون قيد او شرط، وقفزت الى قمة العالم، ويمكن ان نرى المسافة الآن بين المجتمع الفيتنامي والياباني.

اراد الدكتور جلبي ان يقنعنا بجدوى دعوته الى اللاعنف. فضرب تلك الامثلة، ثم دعانا الى المقاومة المدنية. واغرانا بقبول تلك الدعوة في قوله: لنتصور بدل القتال المسلح في مخيم جنين، لو خرج الاطفال والنساء والرجال بدون سلاح في وجه الدبابات الاسرائيلية وتحت عدسات المصورين. ثم تساءل: هل يمكن ان يحدث حجم الدمار الذي حدث؟

حين قرأت هذا الكلام، اكثر من مرة، كان سؤالي الاساسي هو: هل يمكن ان يدخل هذا الكلام ضمن صدق الطبيب ومصارحته لمريض بحقيقة مرضه؟

لقد وجدته حاسما في (فشل الجيوش العربية) وكأننا الحكام والجنرالات الذين قادوا تلك الجيوش، واراد ان يقنعنا بفكرة ان فشل الجيوش ينبغي ان يؤدي الى استبعاد دورها. وليس الى تحري اسباب الفشل والعمل على تقويتها حتى تنجح في مهامها، واراد ان يقنعنا بأن الجزائر حين قدمت مليون شهيد حصدت البؤس والديكتاتورية، وكأنها لو لم تفعل ذلك ولم تقدم اولئك الشهداء لتحرير الجزائر، لنعمت بالرخاء والديمقراطية، كما اراد ان يقنعنا بأن اليابان حين سرحت الجيش واستسلمت بدون قيد او شرط، بلغت ما بلغته من مكانة في قمة العالم، وكأنما يدعونا كلامه الى ان نحتذي حذو اليابان في الاستسلام! هل يمكن ان نعد هذه استنتاجات صحيحة ننصح بها الامة العربية في الوقت الراهن؟ واذا لم تكن كذلك، فهل تعد من قبيل تبصير المريض بحقيقة مرضه، ام من قبيل تشويه ادراكه وتضليله بكم من المعلومات المغلوطة؟

لا تحتاج الدعوة الى اللاعنف الى مرافعة مسكونة بالمطاعن كالتي رأيت مثالبها ونقاط ضعفها، لكن الامر ليس بالتبسيط الذي ذكره الكاتب، واذا كانت الفكرة قد نجحت حين طبقها غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني بالهند، فذلك لا يعني بالضرورة انها تحقق المراد في كل بلد آخر، ولا في مواجهة اية قوة استعمارية، كما ان استخدام اللاعنف وإن افاد في حالات معينة، فذلك لا يعني بالضرورة الغاء او تأكيد فساد الوسائل الاخرى، ثم انه ينبغي الا يعني ان كل حركات التحرر اتسمت بالحماقة وسوء التقدير، وعليها ان تعض اصابع الندم لما قدمت من تضحيات.

ان العدو الاسرائيلي الذي يواجهه الفلسطينيون له وضع خاص يتعين ادراكه، فهو كيان عنصري استعلائي حتى النخاع، وثقافة ابادة الآخر عميقة الجذور في ثقافته التوراتية، وقد رأينا جيشه في جنين يتصرف بجنون على نحو استباح فيه هدم البيوت على سكانها العزل، وترك الجرحى ينزفون حتى الموت في الشوارع، وقتل الابناء امام آبائهم وامهاتهم، وهو سلوك لا نعرف ان الجيوش في اي دولة «ديمقراطية» و «متحضرة» يمكن ان تمارسه، وانما هو سلوك عصابات اجرامية لا تحترم عرفا او قيمة، فضلا عن قانون او شريعة. هل مثل هؤلاء يمكن ان تجدي معهم، فتحد من وحشيتهم واطماعهم التوسعية، الاعتصامات والمظاهرات السلمية التي دعانا اليها الكاتب؟

في 4/29 نشرت «الشرق الأوسط» مقالة للكاتب اليهودي الاميركي توماس فريدمان، قال فيها ما نصه: «ادت الانفجارات الانتحارية خلال شهرين متواصلين الى قلب اسرائيل رأسا على عقب، وافقدت اسرائيل الشعور بالامن اكثر من عمل اي جيش عربي خلال الخمسين سنة الماضية، وفي الوقت ذاته جعلت الاسرائيليين اكثر استعدادا من اي وقت للتخلي عن الاراضي الفلسطينية»، ان هذا الاعتراف مهم للغاية، ويفسر لنا لماذا اعتبر وقف العمليات الاستشهادية وادانتها مطلبا لكل قوى الاستكبار في العالم المناصرة لاسرائيل وغيرها من الاطراف المرتعشة والمهزومة، ذلك افهمه لكن الذي لم افهمه واستغربه هنا هو لماذا يطالب بعضنا بالانضمام الى تلك الحملة، فندعو الفلسطينيين الى القاء سلاحهم واللجوء الى الاعتصامات والمظاهرات والاضراب عن الطعام لكي يحرروا ارضهم من الاحتلال والمستوطنات؟! مرة اخرى: هل نحن بصدد مصارحة للمريض بخطورة حالته، أم بصدد تعذيبه وإماتته؟!