عقلية الحارة والخروج الوهمي إلى التاريخ

TT

«لا يختلف تعاطي العرب مع السياسة في هذه الازمة مع اهل حارة يحاولون الخروج الى الجسر العام، ولأن الحارة مغلقة لا يبقى امامهم الا القفز على سطوح المنازل كمخرج، أو اختلاق خروج كاذب».

هذا هو ردي على كثير من اسئلة القراء التي وردت الى بريدي بعد مقال «هزيمة الاعلام العربي في جنين». وفحوى معظم الاسئلة، وهي كثيرة، هو كيف يبدو حال العالم العربي للمشاهد من بعد؟ وللاجابة عن هذا السؤال سأتناول ثلاثة مواضع للحديث، الاول هو سياسة البلورويد، والثاني هو اعلام الحارة والخروج الوهمي الى التاريخ، والثالث هو الحربجية واستبطان خداع النفس.

1 ـ الحارة وسياسة البلورويد لمن لا يعرف الحارة، او من لم يقرأ نجيب محفوظ، اوضح ان الحارة هي شارع ضيق وهي اكبر من الزقاق والذي بدوره اكبر من العطفة وربما تشتمل عليها جميعا ولكنها اصغر من الشارع. كانت في الماضي، وخصوصا ايام المماليك، ذات بوابة تغلق ليلا، واهل الحارة يعرف بعضهم البعض جيدا يعلمون اسرار بعضهم، ولكن مجتمعهم مغال في المظهرية لتغطية حال الانفضاح الناتجة عن التلاحق المكاني. وللحارة شيخ يحكم تصرفاتها بناء على تعليمات الوالي. والحارة الحديثة في مصر تختلف عن الحارة القديمة من الناحية المعمارية، ولكن عقلية الحارة ما زالت تسيطر على اهلها. واهل الحارات اليوم مغرمون بالتكنولوجيا كمحاولة للخروج الى العالم الكبير او الى التاريخ، فتجدهم يسجلون كل افراحهم على اشرطة الفيديو، يقفون امام الكاميرا بشكل فيه محاولة لاثبات انهم قد خرجوا من الحارة ـ اجتماعيا وماليا وقيميا. هنا تكون حالة الفرح ليست حالة سرور داخلي ولكنها حالة للتصوير، وبعد حالة التصوير هذه تعود الحارة الى حالها القديم الممثل في فقر مدقع وتمزق اجتماعي داخلي، وقاذورات امام المنازل. ولكن لا ترى ذلك في الفيديو او في حتى مظهر اهل الحارة وشبابها وهم خارجون الى حارة مجاورة، حيث يخرجون في كامل زينتهم. ولكن الحارة الآن ومنذ دخول كاميرا البلورويد او التصوير في الحال الى وصول كاميرا الفيديو، في حالة استعراض مستمر، ترى الناس وهم يقدمون عرضا للكاميرا وليس للحياة، يشاهدون التلفزيون، ظنا منهم انهم خرجوا الى العالم او ان العالم أتى اليهم، وخصوصا في هذه الاوقات يخرج اولاد الحارة وبناتها يلبسون كل ما لديهم الى مظاهرة في الشارع الرئيسي ويشاهدون صورهم في شاشات التلفزة، ظانين انهم بذلك قد خرجوا الى التاريخ. هذا الخروج الكاذب من الحارة السياسية العربية الكبيرة هو ما تقدمه كاميرات التلفزيونات العربية، يظن العرب انهم قد خرجوا الى الطريق العام الكبير المسمى بالتاريخ بعيدا عن الحارة بمجرد انهم شاهدوا مظاهراتهم على شاشات تلفزيوناتهم لكنه في الحقيقة خروج كاذب، كالحمل الكاذب. ولكن حالة سياسة البلورويد او التصوير في الحال وكاميرات الفيديو التي سيطرت على عقلية الحارة، تجعل من مظاهراتنا مجرد اداء للكاميرا نلقي الاحجار ونحن نلبس تي شيرت من شركة جاب او سروالا من ليفايز وحذاء من نايكي، ونعلن اننا نقاطع البضائع الامريكية. يستمر هذا العرض لمدة ساعة او ساعتين ثم نعود الى البيت لنشاهد انفسنا ونحن نناضل ضد الاستعمار بالاستحمار، ولكن عقلية البلورويد والتصوير في الحال تسيطر علينا، فليس لدينا وقت للتفكير فيما نفعل ونحن نحاول ان نثبت للعالم اننا خرجنا من الحارة ولبسنا الكوفية ومعنا الدليل فنحن نشاهد انفسنا على شاشات تلفزيوناتنا ونحن نناضل، وها هو الصحفي الجريء ذو الحنجرة الجهنمية محمول على الاكتاف يزعق ضد الاستعمار وينادي بسقوط الانظمة ويدعونا الى الجهاد.

2 ـ إعلام الحارة والخروج الوهمي إلى التاريخ بالطبع يعرف اهل الحارة حقيقة ما حدث عندما يعودون الى حالهم. يجلس المناضل قميئا امام شيخ الحارة، واعلام الحارة اعلام تلميح لا اعلام تصريح، لا يختلف عن صحفنا او تلفزتنا. في الحارة لا يمكن التصريح لان في التصريح تجريحاً ودعوة الى الرد، لذا تجد سيدات الحواري عندما يحاولن التشفي من بعضهن البعض لا يشرن الى جاراتهن بالاسم اذ يوسمونهن باسماء وينعتونهن بصفات من امثال «العوازل والعدوين واللي ما يتسماش». وكلها غمزات تلسين، باللغة العامية المصرية، وهذا ما نراه في صحفنا العربية ايضا وكذلك تلفزتنا، فلا نرى نقدا لكاتب باسمه او لمسؤول باسمه. ان عملية ذكر الاسماء في الصحف والتلفزة العربية أمر مرفوض، ذلك لان الصحافة العربية وكذلك احوال الدول العربية لا تختلف عن احوال الحارة، الكل يعرف نقاط ضعف الكل وكذلك قدراته، حيث ينشر الغسيل على السطوح، ونعرف مغزى كل شيء، ولكن لان جغرافيتنا لا تختلف كثيرا عن جغرافية الحارة وكذلك عقليتنا في معظم الاحيان، لذا يكون اعلامنا كاحاديث الحارة عن «البعدا والعوازل، والعدّوين واللي ما يتسموش». بالطبع تقدم صحفنا وتلفزتنا ما يشبه التلفزة الغربية او الصحف الغربية، ولكن الفارق واضح بين صحف التسمية الواضحة وصحافة الحارة وتلفزتها، صحافتنا وتلفزتنا تعطينا الانطباع بأننا خرجنا من الحارة الى الطريق السريع او الى التاريخ، فقط تعطينا انطباعا.

3 ـ الحربجية واستبطان خداع النفس الحربجية، هو مصطلح صاغه صديقنا النابه رضا هلال الكاتب بـ«الاهرام» المصرية، وهو مصطلح مأخوذ من العامية المصرية المتأثرة بالتركية والتراث العثماني، والنهاية «جي» من آخر الكلمات المصرية تعني صاحب مهنة، فصاحب العربة وسائقها عربجي وصاحب المكواة مكوجي ـ على غرار شعبان عبد الرحيم، وكذلك هناك الشماشرجي الذي يفسح الطريق لشيخ الحارة والأغا ويعلن عن وصولهما. والحربجي هو شخصية تحارب في استوديوهات التلفزة وكذلك في مكاتبها عندما تعلن الجهاد من مكتب مكيف من احد تلفزيونات الدول العربية ويظن الحربجي انه قد لقن اسرائيل درسا لمجرد ظهوره في برنامج الاتجاه المعاكس، وتراه وهو خارج من الاستوديو يتصبب عرقا، ذلك لانه عاش دور الحربجي بكل ما أوتي من قدرات تقمص الشخصية، ثم يعود الى الحارة سائلا اصحابه عن مدى نجاحه في القيام بدور الحربجي ولكن الكل في الحارة يعرف ان الموضوع مجرد لعب دور يلعبونه كل يوم في افراحهم وكذلك اتراحهم، ولكن تبقى كلها محاولات للهروب من واقعهم الضنك، محاولات للخروج الى التاريخ. بالطبع يعرف اهل الحارة انهم لم يخرجوا، ولكن يكفيهم انهم شاهدوا انفسهم وهم خارجون في التلفزيون المحلي والاقليمي «اتصور في الحال ولو كره البعدا والعوازل واللي ما يتسموش». هي فقط حالة محاربة الاستعمار بالاستحمار.

بالطبع الخروج الى التاريخ لا يعني هذه الثقافة القشرية او السطحية. الخروج الى الطريق السريع او الى التاريخ يعني التزاما بقواعد المرور وقواعد اللعبة الدولية. الخروج الى التاريخ لا يعني مجرد البعد عن الحارة، لان كثيراً من العرب الذين يعيشون في الغرب هم بعيدون جغرافياً عن الحارة، لكن عقولهم لم تفارقها للحظة. الخروج الى التاريخ يعني مواجهة الواقع المر دونما استبطان لعقلية الحارة في السياسة او في الصحافة، فهل نحن فاعلون؟