هل نحن أسرى للتاريخ؟

TT

إن جزءا كبيرا من الفلسفة السياسية مبني على فكرة ان الحاضر والمستقبل موجودان في التاريخ وخاضعان له. فاليوم هو مستقبل الامس وتاريخ الغد. والحياة البشرية بصفة عامة هي سلسلة مترابطة ومتفاعلة من الاحداث والمتغيرات القادمة من التاريخ والمحددة للمستقبل. ولكن هذا لا يعني اننا ينبغي ان نكون اسرى للتاريخ. فالمجتمعات البشرية ليست اسيرة تاريخها دائما. ولو بقيت اوربا اسيرة لتاريخها الطويل لاستمرت المنازعات والحروب الاوربية حتى الآن. ولكن واقع اوربا اليوم يعكس توجها نحو وحدة اوربية متكاملة. والدول الشيوعية السابقة تعمل الآن للخروج من آثار قيود ايديولوجيتها السابقة من خلال اتخاذ القرارات الكفيلة بوضع اسس وانظمة جديدة مغايرة ومتناقضة تماما للأسس والانظمة القديمة. وباستثناء بعض افلام هوليوود التلفزيونية التي تتصور امكانية العودة من الحاضر للتاريخ بهدف التأثير في بعض احداثه، فإن التاريخ ليس ضمن نطاق تأثيرنا ولكن الحاضر والمستقبل هما بأيدينا ويمكننا ان نصنع بهما ما نريد معتمدين او منطلقين من التاريخ تارة وخارجين عن نطاق سجنه تارة اخرى. فالتاريخ يمكن ان يكون مسؤولا بأكثر من طريقة عن بعض المشاكل والاخفاقات البشرية المعاصرة، وعندما تكون هناك مشكلة مرتبطة بالتاريخ فمن المهم فهم المشكلة او الاشكالية التاريخية ومحاولة تجاوزها.

وان هناك قضيتين جوهريتين في العالم العربي ترتبطان بالتاريخ وبفهم التاريخ; الاولى هي الصراع العربي ـ الاسرائيلي والثانية هي قضية الوحدة العربية. فاليهود يدّعون ان لهم حقا تاريخيا في فلسطين يعود الى ألفي عام، ولكن العرب محقون في قولهم بأن زوال الدولة اليهودية من فلسطين لمدة قريبة من الالفي عام، وطرد اليهود من المنطقة على يد الرومان وتشتيتهم في الارض منذ ذلك الوقت، قد الغى الحق التاريخي لليهود في فلسطين وابقاه للفلسطينيين الذين وجدوا في المنطقة في وقت مزامن لوجود اليهود او سابق له. وحتى الحق الديني التوراتي لليهود في فلسطين فهناك من يشكك فيه على اسس دينية توراتية. فلقد تم تدمير الدولة اليهودية اكثر من مرة في تاريخها القديم، وبعد احدى الهزائم القوية التي لحقت باليهود في فلسطين لجأ كثير منهم الى العراق. ثم اعاد اليهود بعد فترة طويلة تأسيس دولتهم ومعبدهم في فلسطين وانتشرت دعوة كبيرة بين اليهود في العراق وغيره تدعوهم للعودة الى ارض الميعاد، ولكن احد انبياء اليهود في العراق واسمه التوراتي (جرامايا) وجه دعوة مغايرة ليهود العراق تدعوهم لعدم العودة الى فلسطين، لأن المهم كما قال هو انجاز اليهود الصالح اينما كانوا، وذلك بصرف النظر عن الارض التي يقيمون عليها. وخوفا من شيوع دعوة النبي جرامايا بين عموم اليهود اقدم زعماؤهم على رجمه. لقد سمعت هذه القصة من الحاخام اليهودي الامريكي بيرغر المعروف بمعاداته للصهيونية والذي يعتقد ان ظلم اليهود للفلسطينيين قد افقد ارض الميعاد معناها الديني التوراتي. واذا اراد اليهود فعلا ـ كما يعتقد ـ ان ينعموا بعودتهم لارض الميعاد فعليهم اولا رفع الظلم الذي ألحقوه بالفلسطينيين نتيجة هذه العودة. ولقد امعن في ممارسة هذا الظلم بشكل خاص اليهود المتطرفون الذين يتمسكون بالقدس والمستوطنات بسبب قناعتهم الراسخة بالحق التوراتي لليهود في فلسطين. ولقد ادى هذا الظلم والمأساة التي نجمت عنه الى تكوين غضب فلسطيني شعبي عارم، وجعل بعض الفلسطينيين يعارضون من حيث المبدأ فكرة اي تسوية سلمية ويصرون على تحرير فلسطين كلها.

وبيت القصيد هو القول بأن تحقيق اي تسوية سلمية في الصراع العربي ـ الاسرائيلي يحتاج اولا الى تجاوز مشكلة المأزق التاريخي لهذه القضية. فينبغي على اليهود، وخاصة المتطرفين منهم، نسيان مسألة الحق الديني المبني على اسس توراتية قديمة. وينبغي على الفلسطينيين بالمقابل، وخاصة عناصر حماس وغيرها، التغاضي عن مسألة الظلم التاريخي الذي اصابهم بسبب اليهود، وان يقبلوا بفكرة دولة فلسطينية تعيش جنبا الى جنب مع اسرائيل. فمن شأن التمسك بالأسس التاريخية في مشكلة الشرق الاوسط من كلا الطرفين ان يؤدي الى وضع العراقيل في وجه اي تسوية سلمية ممكنة، فلا يمكن ان نكون اسرى التاريخ في هذه القضية. وهذا يعني بالنسبة لاسرائيل التخلي عن المستوطنات والقدس العربية والجولان والاقرار بمبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كما يعني هذا الامر بالنسبة للعرب والفلسطينيين قبول التعايش مع اسرائيل واقامة علاقات طبيعية معها.

وتتضح الاشكالية التاريخية الثانية في مسألة الوحدة العربية. فبعد خروج الاستعمار من الدول العربية وتبلور الخطاب القومي العربي تطورت الدعوة للوحدة العربية واصبحت مطلبا جماهيريا واسعا. والاساس الذي بنيت عليه فكرة الوحدة العربية هو اساس تاريخي يقوم على تجسيد وتأكيد الروابط التاريخية المشتركة لسكان الوطن العربي، وعلى وجود دولة او سلطة عربية اسلامية تاريخية واحدة بقيت قائمة حتى نهاية الدولة العباسية. وبخلاف الوضع في القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الاسرائيلي فإن الوضعية التاريخية في مسألة الوحدة العربية لم تكن مصدرا لأي نزاع سياسي او عسكري ولكنها ادت الى خلق اشكالية عدم التميز بين الواقع والحلم عند العرب. فالدعوة الى الوحدة العربية قامت على اساس الروابط المشتركة ونجاح التجربة التاريخية السابقة دون مراعاة او فهم الفرق بين ظروف الماضي وواقع الحاضر، وان فشل تحقيق الوحدة العربية الآن ونجاحها في التاريخ القديم يعود الى اختلاف الواقع العربي المعاصر عن الظروف التي احاطت بالدولة العربية الاسلامية في السابق. وغني عن القول ان وقوع بعض المفكرين والقادة العرب اسرى لعظمة ومجد الدولة العربية التاريخية الواحدة هو الذي حال بينهم وبين ادراك الاعتبارات الموضوعية التي اعاقت قيام الوحدة العربية، وذلك بالرغم من كثرة المؤمنين بها والداعين لها والساعين لتحقيقها.

ولو ان العرب كانوا اكثر واقعية ولم يحاولوا اعادة بناء تجربة كانت لها ظروفها الخاصة لربما تمكنوا من فهم حقيقة واقعهم العربي بشكل افضل، ولربما ركزوا جهودهم على تحقيق خطوات ومنجزات فعلية في التضامن وتوحيد الصف العربي عوضا عن السعي لتحقيق حلم تاريخي يصعب اعادة تحقيقه. وباختصار فان فشل مشروع الوحدة العربية يرجع ضمن اسباب اخرى الى اعتماد بعض المفكرين والساسة العرب على التاريخ لبناء نموذج المستقبل. وشتان بين ظروف الامس وواقع اليوم. واذا اراد العرب فعلا تحقيق اطار وحدوي ملموس فمن الافضل لهم الانطلاق من ظروف واقعهم الفعلي، وليس الاعتماد على اعادة احياء نموذج تاريخي لم يعد له وجود إلا في الأذهان.