الأسطورة.. حين يصنعها الناس العاديون

TT

استميح القارئ عذرا، بأن انحي جانبا كل الاحداث الهامة، لأكتب عن موضوع آخر. ننحي جانبا اجتياح غزة، وقمة شرم الشيخ العربية، ونكتب عن اولئك الجنود المجهولين الذين يصنعون المجد.

«حازم كبها» مواطن فلسطيني عادي. ولد بعد نكبة فلسطين بسنوات لم يكن قد لعب بعد في الشارع عندما شارك الكيان الاسرائيلي الوليد في حربه الاستعمارية الاولى ضد الدول العربية، فيما اصبح يعرف تاريخيا باسم العدوان الثلاثي (حرب 1956) التي شنتها كل من بريطانيا وفرنسا واسرائيل ضد مصر بسبب تأميم قناة السويس. وعلى احداث تلك الحرب، ولد حازم كبها عام 1957 في قرية «يعبد» في الضفة الغربية. ولد والحرب من حوله، طفل عادي لعائلة عادية تعمل في الزراعة، وجلست منذ اجيال تحت اشجار الزيتون، وتعلمت منها العطاء. فالزيتون الذي يجنونه زرعه لهم جيل سبقهم، وهم يواصلون زرع اشجار الزيتون لجيل سيأتي بعدهم. وعلى اصداء هذا النغم التاريخي للاجيال التي تأخذ يوميا من الماضي، لتعطي يوميا للمستقبل، نشأ حازم كبها طفلا مزروعا بالعطاء.

ومرت عشر سنوات، اصبح فيها الوليد طفلا يذهب الى المدرسة ويلعب في الشارع ويتسلق الشجر ويصطاد العصافير، ويركض ويضحك ولكن فجأة يتحطم كل هذا العالم، اذ يحتل الجيش الاسرائيلي الضفة الغربية يوم الخامس من حزيران 1967. وهنا يبدأ وعي الطفل حازم يتكون من جديد، يتكون حول الجندي الاسرائيلي، وسوءة الجندي الاسرائيلي، وبندقية الجندي الاسرائيلي، وابن القرية الذي اعتقل وغاب، وذاك الذي التحق بالفدائيين ليقاتل معهم. وبينما كان الطفل يسمع من الكبار قصة الوطن الذي ضاع هناك في فلسطين، بدأ يشاهد بنفسه الجزء الآخر من الوطن الذي بدأ يضيع هنا تحت ايدي الاحتلال والمحتلين. واذا كانت التجربة السابقة 1948 تحتاج الى من يرويها للطفل، فإن التجربة الجديدة 1967 لا تحتاج الى اي راوية، فهي تجري تحت السمع والبصر، وهي تحفر في عقل الطفل دروسا لن ينساها وآلاما لن تمحى من الذاكرة. وما ان يتحول الطفل الى شاب يافع حتى يقرر ان يلتحق بالثورة الفلسطينية المسلحة. كانت الثورة المسلحة قريبة منه في الاردن ثم انتقلت الى لبنان، وهو يستطيع ان يجد طريقه اليها بسهولة، مثله مثل غيره من آلاف الشباب. وهناك تبدأ شجرة الزيتون بالعمل. ينهل «حازم كبها» من نبع المناضلين الذين صنعوا تاريخ فلسطين، ويبدأ في ترسيخ العطاء للذين سيأتون من بعده ليواصلوا رفع الراية.

ويكر شريط التجربة الفلسطينية بانجازاته واخفاقاته، تجربة لبنان، حصار بيروت، التوزع بين العواصم العربية، مؤتمر مدريد، واتفاق اوسلو، ويكون الشاب اليافع قد اصبح رجلا.. ومقاتلا.. وقائدا. وتبدأ تجربة جديدة مع حكومة آرييل شارون، وتظهر الى السطح كتائب شهداء الاقصى التابعة لحركة فتح، وتلعب هذه الكتائب دورا بارزا في قيادة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويكون «حازم كبها» واحدا من قادتها في مدينة جنين، ثم يبدأ اجتياح عسكري اسرائيلي جديد، ويحاصر جيش الاحتلال مخيم جنين، حصار حدث من قبل، وربما سيتكرر بعد ذلك، ولكن ثمة فارقا هذه المرة، «حازم كبها» موجود داخل المخيم، واسمه الذي يعرفه به الناس «ابو جندل». النقيب ابو جندل، اسم عادي لرجل عادي، ولكنه رجل معجون بعطاء شجر الزيتون الذي ينبت نسغه من جيل الى جيل.

يعد ابو جندل نفسه ورجاله ومخيمه للمعركة. لديه بضع بنادق وشيء من الذخيرة.. ولديه الارادة. لديه الاحساس العميق بعدالة القضية التي يقاتل من اجلها. ولديه الناس الذين يحبهم ويحبونه، وفي المقابل تتحرك دبابات رابع اقوى جيش في العالم. وتبدأ المعركة.

يكتشف جنود رابع اقوى جيش في العالم ان تقدمهم في المخيم ليس سهلا. يكتشفون انهم بدأوا يقتلون. يقرر قائدهم ان يتراجع، فيصدر القرار من الاعلى بتنحيته، وابو جندل صامد مع جنوده وجيرانه، يأتي قائد اسرائيلي جديد ليتقدم جنوده ويسقط القائد الجديد قتيلا. وابو جندل صامد مع جنوده وجيرانه، يزداد القلق عند اصحاب القرار في الاعلى فيقرر الجنرال شاؤول موفاز ان يحضر الى الموقع بنفسه وتصوره اجهزة التلفزيون مدججا بالسلاح في الخط الامامي للقتال. يأمر موفاز احد ضباطه من ذوي الخبرة بالتقدم الى بؤرة المخيم، وهناك يسقط الضابط الاسرائيلي الثالث في كمين اعده ابو جندل، ويقتل مع ثلاثة عشر جنديا من جنوده. وهنا تسقط ورقة التوت عن الجيش القوي الذي لا يقهر، ويصدر موفاز الامر بابعاد الجنود وتقدم الجرافات وتبدأ المجزرة، مجزرة مخيم جنين. وبدلا من القتال يبدأ التدمير. يبدأ جرف البيوت وهدمها على من فيها من السكان ويتم باتقان انجاز جريمة حرب مثالية.

ولكن اين ابو جندل؟

انه في بؤر المخيم جريح ينزف دماً وقد نفدت منه ذخيرته. يجره جنود الاحتلال الى مركز المخيم. وهناك يقومون باعدامه رميا بالرصاص.. ثم ينقل جثمانه الى مستشفى جنين. اعدام علني لاسير جريح لا يشرف العسكرية الاسرائيلية.

اثناء ثورة 1936 في فلسطين ضد بريطانيا اصطدم ضابط بريطاني كبير بمجموعة من الثوار وعجز عن هزيمتهم، واضطر ان يستحضر قوة كبيرة لانجاز مهمته، وحين تفحص بعد المعركة سلاحهم وطعامهم وجد لديهم بنادق قديمة وطعاما جافا من الخبز والبصل فجمع جثث الثوار وامر جنوده التحلق من حولهم واداء التحية العسكرية لهم، بسبب شجاعتهم. ولكن العسكرية الاسرائيلية بعيدة كل البعد عن ان ترتقي الى مستوى احترام عدوها بسبب شجاعته، وهي لا تتورع ان تسارع الى الانتقام من اسير وجريح.

الشهيد النقيب حازم كبها (ابو جندل) والد الثمانية اطفال. بعد يوم واحد من استشهاده انجبت زوجته في يعبد طفلا جديدا هو ابنه التاسع واطلقت العائلة على المولود الجديد اسم «صمود».

وفي يعبد، مسقط رأس ابو جندل، فتح والده بيت عزاء وذهب وفد من اهالي يعبد الى مخيم جنين لنقل الجثمان ودفنه، ولكنهم فوجئوا بأهالي جنين يعترضون طريقهم. رفض اهالي جنين السماح للعائلة بنقل الجثمان. قالوا لهم: جنازة ابو جندل يجب ان تكون كبيرة ومهيبة، ويجب ان تنطلق من هنا، من ارض المخيم الذي دافع عنه ابو جندل ووهبه حياته. وصمت افراد عائلة ابو جندل ووافقوا. كانوا يرون رأي العين شجرة الزيتون التي تزرع الآن لتعطي في الجيل المقبل.. هذا هو عملهم.