لندن: من كمال قبيسي

TT

كل منا له عاداته في قراءة صحيفته. هناك اولويات، وهناك اشياء تقرأ على عجل، وهناك اشياء تترك الى هدوء المساء، كما افعل مع بعض ما يكتبه الزملاء والكتاب الكبار، وخصوصاً الدكتور خالص جلبي، الذي كنت اعتقده عراقيا، فاذا هو لا سوري ولا عراقي، بل من وسط الحدود بين الدولتين، وهو، مثل عدد من المتنورين الذين طبعوا القرن الماضي، كردي الاصول، ومن هنا بلاغته.

ومن عاداتي المكتسبة ان ابحث كل صباح عن الزميل كمال قبيسي: اين هو اليوم؟ في نيجيريا ام في البرازيل؟ في جبال الانديز ام في غزة؟ واعرف طبعا «ان كمال قابع خلف الانترنت في مبنى دار الصحافة العربية» في «هاي هولبورن»، لكنني لا اجد نموذجا افضل منه في صورة الصحافي المعاصر وهو يسخر الالة والحداثة وضيق الرقعة البشرية من اجل ان يلاحق الخبر ويلحق به من قارة الى قارة وهو جالس خلف مكتبه، ويملك كمال قبيسي الفضول والمهنية واللغة الاسبانية، والبرتغالية، ويملك معهما آلة كومبيوتر وخط هاتف دوليا. فما ان يقرأ على الانترنت خبراً يهم القارئ العربي حتى يبدأ بمطاردة العواصم والسفراء والصحف والمصادر. وصباح اليوم التالي يطلع على قراء «الشرق الأوسط» بتفرد ما، بحكاية ما، باثارة ما. ومن خلال كل هذا العالم انشأ كمال قبيسي عالماً خاصاً به. عالم المراحل المتجول الذي يصول من دون ان يجول. واعود فاكرر انه نموذج مثالي لتسخير الالة والحداثة المتوافرة لصحافي اليوم. ففي الستينات والسبعينات، كان علي كمراسل في باريس، ان اكتب الرسالة ثم احملها الى مطار اورلي لابحث عن راكب موثوق مسافر الى بيروت. وفي نهاية السبعينات كان علي ان أملي مقالتي «للمستقبل» على آلة تسجيل، ثم يتولى هناك من يفرغها، اي كتابة ثم خطابة ثم تفريغ ثم جمع، ثم جاء الفاكس، وجاء الآن دور المراسل الذي يجمع مقاله بنفسه ثم يرسله الى الكومبيوتر الأم في الجريدة. والانترنت تضع امامك كل صحف العالم. وبألف دولار في العام تقدم لك «جهينة» 200 صحيفة وتلفزيون عربي طوال 24 ساعة، بحيث تلتقط كل جديد، او مستجد. وتتولى «جهينة» ايضا حفظ كل ما تريد من هذه المواد وترتيبه في مواقع خاصة.

ومن سوء حظي انني لا انتمي الى هذا العالم، لكنه سحرني كما كانت السينما تسحرني وانا صغير. لقد اصبح الراديو اختراعاً متخلفاً في عالم الاتصالات. اما في الماضي فكنا قبل ان «نغلق» الجريدة نصغي الى آخر نشرة دولية لكي لا يفوتنا خبر. وقبل فترة كنا على العشاء مع الاستاذ محمد القرقاوي في دبي عندما رن هاتفه... وكان المهاتف الخدمة الاخبارية في السي. ان. ان تعلن ان الرئيس الفلسطيني سيخرج من الأسر بعد قليل.

اننا الآن محاطون ومغرقون بالاخبار. ولذلك تفتش الصحف والاذاعات والفضائيات عن خدمات اخرى لجذب جمهور او استبقاء آخر. وقد لاحظت في الاونة الاخيرة تغيراً لافتاً للسمع في اذاعة مونت كارلو والبرامج التي تقدمها حول العالم العربي. وكل ذلك من دون ان ينتقل المقدمون من باريس. واصغي بمتعة وفائدة الى برامج الزميلة كابي لطيف، والى مقدم واسع الثقافة والمعرفة التاريخية من عائلة المقدسي. لقد ضاع الاسم الاول في الذاكرة.