يبحثون عن «بيتان»، و«لافال»، و«نْجودين دْيام»، و«ابن عَرَفةَ»، و«أنطون لحد»

TT

الإسرائيليون محتلو أرض فلسطين يبحثون جادين ـ كما فعل أسلافهم المستعمرون ـ عن بديل للحكومة الفلسطينية وقائدها الرئيس ياسر عرفات.

والتاريخ الاستعماري حافل بنماذج لهذا التوجه الذي يطمع المستعمرُ من ورائه إلى تغيير الحكم الشرعي القائم عندما يواجه مقاومة من هذا الحكم لأطماعه، ويصل معه إلى الدرب المسدود، وتعجز قوته العسكرية عن كسر صمود الحكم الشرعي في وجه الاحتلال والاستعمار، فيفكر المستعمر في حكم بديل سلْس القِياد، مستعد للتعاون مع المستعمر على تكريس واقع الاحتلال، أو الرضا بما يمنحه إياه، وإضفاء الشرعية على بدائله، وتصفية معارضة توجهاته. وهذا الحكم يُدعى تاريخيا بحكم العملاء، وأحيانا بحكم المتعاونين في تعبير قَدْحي، ولا يعني التعاون النَّدِّي الشريف.

عندما احتل هتلر فرنسا في الحرب العالمية الثانية نقل عاصمة فرنسا من باريس إلى فيشي، وأقام نظام المارشال «بيتان» الذي سمى نفسه رئيس دولة فرنسا، وعين بأمر من هتلر «لافال» رئيساً لحكومته العميلة، بينما ظل الجنرال دوكول من منفاه يقاوم الاحتلال النازي ويطعن في شرعية حكومة «بيتان»، إلى أن اندحرت قوات الاحتلال الألماني وأصبح رئيساً لفرنسا المحرَّرة. وكانت نهاية «بيتان» الحكم عليه بالإعدام الذي تحول إلى السجن المؤبد. أما الوزير «لافال» فقد نُفِّذ فيه الإعدام بعد تحرير فرنسا.

وعندما انقسم الفيتنام إلى شماله وجنوبه قام في جنوبه في أكتوبر 1955 حكم لا شرعي إثر انقلاب عسكري قام به «نجودين دْيام» على الملك الإمبراطوري «باوداي». وكان «نجودين دْيام» يعتبر عميلاً للولايات المتحدة التي آزرته وعهدت إليه بالقضاء على الحركة الشيوعية التي كانت تقودها جبهة «فييت كونغ»، لكن هذا الحكم العميل انهار بانقلاب عسكري مضاد سنة 1963.

وفي المغرب، وبعد سنوات قاوم فيها الملك محمد الخامس (كان يسمى في هذه الفترة السلطان ابن يوسف) المشاريعَ الاستعمارية، وأضرب عن التوقيع على المراسيم (الظهائر) الملكية التي تعترف لها بالشرعية، أصبح السلطان في نظر الفرنسيين قائدا غير صالح، ودبروا لاستبداله، وقبضوا عليه وخلعوه، وأقاموا بدله عميلا اسمه ابن عَرَفَة الذي قلتُ عنه في ندوة صحفية في باريس: «إنه لا أحد في المغرب كان قد عَرَفَه، قبل أن يُرفع على العرش دُمية لا حراك بها».

ثم عاد الفرنسيون وتابوا عن ذنبهم ونحّوا العميل ابن عرفة عن العرش، وعاد الملك الشرعي ومعه أمضت فرنسا وتحت شرعيته على اتفاقية اعترافها باستقلال المغرب سنة 1956.

ونقلت فرنسا سلطانَها العميلَ إلى باريس، حيث مات في فرنسا غريبا عن وطنه لم يُعرَف موتُه كما لم يكن أحد قبل تنصيبه على العرش يعرف شيئاً عن حياته.

ولقي أنطون لحد «نفس مصير العملاء بعدما نصَّبته إسرائيل عبدا مسخَّرا لها في جنوب لبنان».

وعندما قبلت حكومات إسرائيل بالدخول مع عرفات في مفاوضات الحكم الذاتي محدود الصلاحية والسلطة، رأت فيه أخف الضررين مقارنة مع حاملي السلاح الفلسطينيين، وتلمَّست فيه أن لا يكون مفاوضا مزعجا، وأن تؤدي عودة قادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى خمود الانتفاضة الأولى، وراهنت على تطويع المقاومة للاحتلال، وقبولها في النهاية بدولة فلسطينية تحدد لها إسرائيل حدودها الترابية، وترسم لها حجم سلطتها، وتطوقها بالمستوطنات، وتُخوِّلها مظاهر السلطة من عَلَم وطني، وشرطة أمن، على ألا تكون في جميع أشكالها كاملة السلطة، أو يكون لها جيش وطني، أو تكون لها حرية إبرام معاهدات أو تحالفات مع الدول العربية المجاورة. والأكثر من ذلك أن تكون دولة مقطوعة الأوصال تابعة في ضمان أمنها الوطني لإسرائيل التي تراقب حدودها وتؤمِّن سلامة الداخل إليها والخارج منها.

وطيلة مفاوضات أوسلو التي استمرت 10 سنوات عِجافا كانت السلطة الوطنية ورئيسها موضوعَيْن من لدن إسرائيل والولايات المتحدة راعية السلام في محَكِّ الاختبار. وراهن الإسرائيليون والأمريكيون على أن تنتهي المفاوضات إلى حل سلمي، ليس هو حل الأمم المتحدة المضبوط بقراراتها، ولكن مجرد حلّ نِصْفُه ـ كما يقول الفرنسيون ـ تينٌ ونِصْفُه عنب، أي فاكهة فَجَّة لا طعم لها تُنقَذ بها المظاهر، إذ تنتصب على رأس حكمها قيادة وطنية تضفي على الحل الشرعي المطبوخ شرعيته التي تعوض الشرعية الدولية. وبذلك يسلم الحد لمحدوده، وتدخل إسرائيل المنطقة العربية من الباب الواسع، وتطبِّع معها الدول العربية، وتنتهي بذلك مقاومة شعب فلسطين التي استمرت ما يناهز مائة عام، تميز نصفها الثاني بضراوة لم تصلها أية حركة تحرير عبر العالم.

لقد كانت محطة كامب ديفيد الثانية حاسمة انكشفت فيها أوراق لعبة السلام المغشوش، لأن الطبخة التي أعدَّها كل من إيهود باراك وبيل كلينتون رفض تناولَها على مائدة المفاوضات الرئيسُ عرفات بقوة وإصرار، رغم محاصرته التي طالت عشرة أيام، وكان فيها الرئيس كلينتون (تحت ضغط نهاية فترة ولايته الثانية) طامعا في أن ينتزع من عرفات إضفاء الشرعية عليها قبل أن يغادر هو البيت الأبيض، لكنه فشل في هذا الرهان، وغادر البيت الأبيض تاركاً لخلفه الرئيس بوش وصية ينصحه فيها بالتعامل بالحذر مع الرئيس الفلسطيني والعمل على كسر شوكة مقاومته.

وفي هذا الإطار عمل شارون وفشِل رهانُه هو أيضاً، بل تَوحَّد الصف الفلسطيني في مواجهته لكسر شوكة عدوانه. وعلى ذلك اعتبر شارون والرئيس الأمريكي بوش أن عرفات قائد غير صالح، وأن عليه أن يكسر المقاومة أو أن يتنحى عن السلطة. وكان شارون يراهن على أن حصار الرئيس الفلسطيني بمقره برام الله سيحوله إلى قائد مطواع، وأن قسوة العيش التي فرضتها عليه ظروف الحصار الغليظ ستحوله إلى مفاوض يقبل أرباع الحلول. وفي نفس الآن، كان البحث يجري لاستبدال قيادة أخرى بالسلطة الفلسطينية ورئيسها، أي البحث عن سلطة عملاء ومتعاونين خونة، لكن لم يجدوا بين القيادة لا من بين المدنيين ولا بين العسكريين من يرشح نفسه لهذه العِمالة التي بحثوا عنها بقنديل «ديوجين» وفشلوا في العثور عليها فشلا ذريعا، وابتلعوا هذا الفشل المرير بينما كان الرئيس يردد من سجنه ويصرخ في وجه الجميع: «يريدونني أسيراً أو طريداً أو قتيلاً، وأقول: أريد أن أكون شهيداً شهيداً شهيداً».

وبعد فك الحصار انطلقت الدعوة من واشنطن وتل أبيب إلى ضرورة إصلاح الرئيس عرفات أجهزة سلطته، وخاصة جهازه الأمني ليكون جهازاً ضارباً أعناق المقاومة. وجاء ذلك على لسان شارون والرئيس بوش ومستشارته «رايس» وهم جميعا يعلمون أن إصلاح السلطة مشروع فلسطيني يُجمع أعضاء السلطة على ضرورة تحقيقه على أن يكون إصلاحاً شاملاً جذرياً ملبياً لمقتضيات المرحلة، وليس لتحقيق متطلبات أمن إسرائيل فحسب كما يُراد له أن يكون.

ربما كان الأجدى للإدارة الأمريكية أن تطلب من شارون ـ قبل السلطة ـ أن يراجع مفاهيمه العنصرية الاستعمارية المتطرفة بدلا من أن تعطي له القيادة الأمريكية شهادة زور بأنه رجل السلام، وأن حكومته ديمقراطية. وكان الأجدى بالإدارة الأمريكية أيضا أن تنتبه إلى أن شارون قد مارس عليها طيلة حكمه مسلسل ابتزاز رضخت له بسذاجة وعليه أن يعاملها بما يليق بالولايات المتحدة من احترام، وأن يكف عن توريطها في خدمة مصالح إسرائيل على حساب مصالحها، وأن تدعو نفسها إلى إصلاح سياسة تعاملها مع العرب والمسلمين الذين لم يُعادوها قط وظلوا ينظرون إليها ـ إلى لحظة 11 سبتمبر التاريخية ـ على أنها الدولة العظمى التي ناهضت عبر العالم الظلم والعدوان، وناصرت الحريات، وحاربت النازية والفاشية، وقدم شعبها تضحيات لخير البشرية وسعادتها، وهبت إلى نجدة العالم الحر عندما طلب نجدتها.

وكان الأجدى بالإدارة الأمريكية أيضاً أن تراجع وتصلح مفهومها للإرهاب، وأن ترفع الخلط الذي أحيط به الإرهاب حين لم يفرَّق بينه وبين مقاومة الاحتلال المشروعة، هذه المقاومة التي مارسها المقاوم الأمريكي الأول جورج واشنطن ومن تلاه من القادة الأمريكيين الأبطال في معركة الاستقلال الأمريكي، كما مارسها في أوروبا أيام الاحتلال النازي زعماء ورؤساء حكومات ووزراء ووطنيون مثقفون لم يقل عنهم أحد آنذاك إنهم إرهابيون.

وهل يُقبَل أن تنحطَّ المفاهيمُ إلى حدّ أن يسمى جورج واشنطن إرهابياً، أو يُنعت الجنرال دوكول بالإرهابي، أو يوصف بهذا الوصف زعيم التحرير الفنزويلي «بوليفار»، أو زعيم تحرير جنوب افريقيا «مانديلا»، أو غيرهم من المقاومين الذين خلد التاريخ أسماءهم؟