دروس من تجربة الانقلاب في فنزويلا

TT

في الثاني عشر من ابريل الماضي قامت مجموعة من قادة الجيش الفنزويلي بخلع الرئيس المنتخب، هوجو شافيز، عن سلطته، واقامت سلطة بديلة برئاسة رجل الأعمال كارمونا، حكمت لمدة ثماني واربعين ساعة فقط، ثم اعادت المؤسسة الديمقراطية العليا (الجمعية الوطنية) الرئيس المخلوع الى السلطة، بعد رفضها الاستسلام لمطالب الحكومة الانقلابية، اضافة لمطالب الشارع بعودة الرئيس المنتخب (شافيز) الذي يتمتع بشعبية بين اوساط فقرائه.

تعيد واقعة هذا الانقلاب الفاشل للفنزويليين ذاكرة انقلاب عام 92 الذي قاده في ذلك الوقت الرئيس الحالي، شافيز، ضد نظام الرئيس السابق، اندريز بيريز، تحت مطالب تركزت على ايقاف نهب الثروات الوطنية، وتهريب رؤوس الأموال الى الخارج، والدفاع عن مصالح الفقراء في بلد غني بثرواته وفي مقدمتها النفط. وفيما ألغى قادة انقلاب ابريل 2002 سياسة شافيز الراديكالية خصوصاً في ميدان النفط، والتجارة، والعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فقد اتخذت حكومة الثماني وأربعين ساعة مجموعة من القرارات العاجلة أوضحت هويتها (إلغاء البرلمان، وقف النفط عن كوبا، تأمين نصف صادرات النفط للولايات المتحدة الأميركية) ورد الفعل السريع في تأييد واشنطن للحركة الجديدة.

لقد أثار حكم السنوات الثلاث الديمقراطي لشافيز، قلق القوى المحلية المتمثلة بقطاع رأس المال ووكلاء الشركات متعددة الجنسية وتكنوقراط القطاع النفطي، خصوصا بعد خيبة ويأس القطاعات الشعبية الواسعة من شعارات الحزبين الكبيرين (الديمقراطي المسيحي والعمل) اللذين تقاسما السلطة في فنزويلا لمدة أربعين عاماً، كانت ثروات البلاد خلالها معرضة للضياع بسبب الفساد الاداري وانعدام التنمية وتحول الاقتصاد الفنزويلي الى اقتصاد استهلاكي، مما حقق لشعارات شافيز الثورية شعبية واسعة اهلته لدخول «قصر الورود» في كاراكاس عام 98.

كما اثارت سياسة الحاكم الفنزويلي الاقليمية والدولية في ميدان النفط، انزعاج الولايات المتحدة الأميركية، وترحيبها بأية محاولة لازاحته عن الحكم، حتى وإن تحققت عن طريق الانقلاب العسكري. ولعل نجاح الحركة الانقلابية في ازاحة الرئيس شافيز وفشلها في الاحتفاظ بالسلطة، واستعادته لها خلال يومين، تقدم العديد من الدلالات على صعيد أميركا اللاتينية وعالمنا العربي.

أولاً: على الرغم من سيادة الديمقراطية وتجذرها في حياة غالبية مجتمعات بلدان العالم الثالث، الا انها تظل معرضة لمخاطر اختراق المؤسسة العسكرية، التي تؤكد استمرار امتلاكها لمفاتيح لعبة السلطة، وامكانيات استثمارها كقوة تغيير لصالح مراكز القوى الليبرالية المحلية وصلاتها بمصالح الولايات المتحدة، وهي في المثال الفنزويلي، القيادة النفطية المتمثلة بشركة النفط الوطنية PDVSA، والكنيسة الكاثوليكية، وأصحاب رؤوس الأموال. كما ظلت فعاليات الديمقراطية الليبرالية محصورة في الطقوس الانتخابية، ولم يتحول الوعي الديمقراطي الى وضع قواعد متينة للتطور الاجتماعي والاقتصادي ومنع الطموحات الذاتية غير المشروعة في الكسب المادي والفساد والرشوة، بما يلجم طموح العساكر عن الدخول في مغامرة الانقلابات.

ثانياً: قدمت تجربة شافيز في الحكم، دليلاً على ان الشعارات الثورية حتى وإن حظيت بالتجاوب الجماهيري، وامتزجت بنوع من الانفتاح المقيد، لا تستطيع ان تواجه تيار حركة السوق الحر، ومرتكزاته السياسية والاعلامية والاقتصادية، بعد اكثر من نصف قرن من مكاسب حرية التعبير والرأي والصحافة الحرة، وتنامي تأثير مؤسسات المجتمع المدني في الشارع السياسي، وخصوصاً دور الكنيسة الكاثوليكية السياسي، وان العودة الى منهج سيطرة الدولية على وسائل الانتاج بطريقة المجابهة المكشوفة لقوى الطبقة الوسطى، تشكل نوعاً من المغامرة القاتلة. وهذا ما وقع فيه شافيز، الذي عدل الدستور الفنزويلي بما يحقق اشراف الدولة المباشر على القطاعين الصناعي والزراعي. وخلقت اجراءاته في متابعة ومراقبة الملكية الخاصة للأراضي الزراعية ومصادرتها، فوضى وقلقاً واسعين بين ملاك الأراضي والمزارعين. وكذلك اجراءاته في توجيه سياسة القطاع النفطي، والتحرش بقيادة شركة النفط الوطنية وازاحتها، والتي تعبر سياستها عن مدى الترابط بينها وبين شركات النفط الأميركية العملاقة، وهو الخط الاحمر الذي لم تسمح به تلك المصالح. لا شك في ان شافيز، الذي يقود بلداً من أغنى بلدان اميركا اللاتينية بالثروات، لكن اكثر من نصف سكانه يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة البطالة اكثر من 20%، استطاع خلال السنوات الثلاث من حكمه، وضع برامج تعليمية ادخلت اكثر من مليون طفل الى المدارس، وتخفيض نسبة البطالة الى 13%.

ان وضع برامج لحماية الثروات الوطنية يتطلب سياسة حكيمة لا تخسر دور الطبقة الوسطى (رؤوس الأموال، وطبقة التكنوقراط، ووكلاء شركات الاستثمار) ولا تضعها في صفوف الاعداء، أو تساعد على اثارة حالة التنازع والتصادم بين القوى الاقتصادية المحلية المتمثلة بالفئات الوسطى والفقيرة، لأن ذلك يؤدي الى تعريض الوحدة الاجتماعية للمخاطر. وكذلك اثارة الهلع بين اوساط التجار الفنزويليين الصغار، ودفعهم الى تهريب أموالهم الى البنوك الأميركية، وبدلاً من أن يتوقف تصاعد التضخم الاقتصادي، فقد ازدادت معدلاته خلال العام الأخير وهبطت قيمة العملة المحلية.

ثالثاً: تشير تجربة ما جرى في فنزويلا قبل مدة، الى ان الولايات المتحدة الأميركية، ورغم انشغالها بمعالجة قضايا عالمية ساخنة، خصوصاً منطقتي آسيا والشرق الأوسط، لم تهمل ما يحدث في حديقتها الخلفية (أميركا اللاتينية)، بسبب سقوط ثنائية الاستقطاب الاستراتيجي العالمي، والتي تشكل قاعدة حيوية لمصالحها السياسية والاقتصادية. فقارة اميركا الجنوبية هي المغذي القريب لماكينتها الاقتصادية في المواد الخام والثروات الزراعية العديدة وثروة النفط، وهي السوق الكبيرة لمنتجات شركاتها العملاقة. وقد ظلت واشنطن تراقب وتتابع محاولات شافيز في خلق لوبي لاتيني ضد السياسة الاميركية في القارة، من خلال دعواته الاستفزازية عبر منظمات اقليمية (كمنظمة الوحدة الأميركية) وكذلك منظمة (الانديز)، ومحاولاته تعديل نظم بناء جسور التجارة الحرة بين بعض دول أميركا اللاتينية (أميركا وكندا)، مما يتعارض وسياسة واشنطن، وكذلك وقوفه الى جانب المنظمات الكولومبية اليسارية المسلحة، التي دخلت في صراع دموي مع حكوماتها منذ سنوات، واصبحت حاضنة لعصابات المخدرات، مما عرض خطة (كولومبيا)، التي انفقت خلالها الحكومة الاميركية اكثر من خمسة مليارات دولار، للخطر، وكذلك سياسته النفطية التي قد تشكل انقساما في سياسة «أوبك» فيما اذا تجمع معها محور ايران وليبيا والعراق، مما جعل واشنطن ترحب بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في الثاني عشر من ابريل.

رابعاً: الولايات المتحدة تعيش، في هذه المرحلة، بحالة من عنفوان الهيمنة والقوة، وهي لا تتردد حاليا في استخدام القوة أو تبديل حكومات تجاه من يعارض سياستها فعلياً وليس كلاميا في بلدان العالم الثالث ذات الأهمية الاستراتيجية لمصالحها، وهي كذلك لا تخجل من دعمها للانقلابات العسكرية حتى ضد الحكومات الديمقراطية، ولعل مثال اطاحة (أليندي) في البرازيل لم ينجح في الانقلاب الأخير بفنزويلا، فقد دعمته واشنطن منذ ساعاته الأولى ولم تسمه انقلاباً، وحين عادت سلطة شافيز للحكم، دعته مستشارة الأمن القومي، كوندوليزا رايس، الى «تعديل سير سفينته التى سارت باتجاه خاطئ لبعض الوقت»، حسب قولها. وقد رد شافيز على ذلك، بالاصرار على سياسته، وتوجيه رسالة الى واشنطن يدعوها فيها الى ضرورة عدم الاستناد الى معلومات مشوهة حول حكمه. وهذا درس يتطلب من الحكام العقلاء عدم الدخول في مغامرات خاسرة تلحق الضرر الجسيم بمصالح شعوبهم المباشرة وحياتهم الكريمة، ومقايضتها بدعاوى (التصدي للهيمنة الأميركية)، من دون ان يعني ذلك الارتماء في سياسات تتعارض مع المصالح الوطنية العليا.

خامساً: الدرس الأخير الذي ينبغي الاشارة اليه، هو انحسار دوافع الانتقام والثأر امام لغة التسامح والحوار، ففنزويلا من بلدان العالم الثالث، لكن مجتمعها لا تحركه العصبيات القبلية والاثنية، وترك التمدن المدني أثره في طبقته السياسية، التي كانت في يوم ما، ميداناً للحركات والعصيان المسلح الذي لم يوصلها الى الحكم، وأصبح التمسك بالحوار السياسي، واللجوء الى المرجعية الدستورية والقانونية هو البديل عن القوة أو اغتصاب السلطة بالسلاح. فرئيس حكومة الانقلاب العسكري لم يسجن، وانما وضع في الاقامة الجبرية تمهيداً لمحاكمته.. ولكن للأسف نلاحظ بعض دعاة المعارضات السياسية في عالمنا العربي خارج بلدانهم والذين هم جزء من مشاريع وسياسات اميركا، يأخذون من مظاهر استنادها الى القوة ما يجعل سيوفهم تخط بالدم لغة التوعد والانتقام والثأر قبل أن يصبحوا حكاماً.

* سفير عراقي سابق