بيكاسو وماتيس

TT

ماذا تحكي وماذا تترك عن معركة لونية صامتة، وصائتة بين العبقريتين الخالدتين بيكاسو وماتيس...؟

وأراهنك من فرشاة لعلبة ألوان ان المعرض الذي فتح أبوابه للزوار في العاصمة البريطانية قبل يومين لينتقل بعدها الى باريس ونيويورك سيكون حدث العام الفني والثقافي دون منازع، فبيكاسو وماتيس ليسا مجرد رسامين كبيرين ولكنهما فلاسفة ألوان وأصحاب رؤية ثاقبة للانسان والوجود.

انه صراع حقيقي ولكن من النوع الراقي ذاك الذي ستشهده في 14 قاعة متلاصقة حرص منظمو لوحات الفنانين فيها على اظهار التأثير والتأثر، والسرقة والنهب في الافكار والتكوينات مع اثبات ذلك كله بالامكنة والمشاهد المكررة، والتواريخ.

ولم يكن بيكاسو ينكر انه «حرامي» كبير، وهذه اعترافات شائعة بين العباقرة الكبار، ففي الشعر كان اليوت يبارك الشاعر الذي يأخذ فكرة سبقه اليها غيره ليصنع منها صورة أو قصيدة أفضل، وهو ما تسميه البلاغة العربية وقع الحافر على الحافر، ومشاجرات ذلك كثيرة بين المتنبي وخصومه وسلم الخاسر وبشار.

وفي معرض بيكاسو وماتيس يقع الحافر على الحافر قصداً، وليس صدفة، فقد ظل بيكاسو عشرين عاما بعد وفاة ماتيس يصارع شبحه، ويأخذ أفكاره وتكويناته ويطورها باسلوبه الفريد، اسلوب الطفل التلقائي والمايسترو المتمكن من فرشاته وخطوطه وألوانه. وكان ماتيس يعرف ذلك، ويدرك ان معركته مع بيكاسو مفتوحة على كل الآفاق، ويحكي عن ذلك علناً ليغذي افكار النميمة والغيرة والحسد الشائعة عن الاثنين. ففي احدى رسائله لابنه وبعد زيارة بيكاسو لمرسمه في نيس على الشاطئ اللازوردي كتب ماتيس قائلاً عن تلك الزيارة التي حدثت في أربعينات القرن الماضي: «زارني بيكاسو مؤخرا وقال انه سيعود، والأرجح انه لن يعود فقد نظر في لوحاتي وأخذ ما يريده منها وستراه مستقبلاً في لوحاته».

ويبتدئ المعرض اللندني باللوحتين اللتين تبادلهما الفنانان في خريف عام 1907 فقد زار ماتيس مرسم يبكاسو وأخذ منه كهدية لوحة فيها مزهرية واناء وليمونة طازجة، ورد بيكاسو الزيارة فأهداه ماتيس اللوحة التي رسم فيها باسلوب طفولي ابنته الكبرى مارجريت، وكان هذا بالضبط ما يغار منه بيكاسو الذي يؤثر عنه قوله: «في الرابعة عشرة من عمري كنت ارسم كرافائيل، وقد امضيت عمراًَ كاملاً لأتعلم كيف ارسم كالاطفال».

ويقال تشنيعا على بيكاسو انه استخدم لوحة ماتيس كدريئة لرمي السهام والمعرض يكذب ذلك فلوحة مارجريت سليمة وبحالة جيدة وليس فيها أثر لأي سهم أو رمح أو سكين وقد علقت الكاتبة الاميركية جيرترود شتاين معاصرة الفنانين في حقبتهما الباريسية على ذلك التبادل الغريب للهدايا فقالت ان كلاً من الفنانين أخذ ما يعتقد انه اسوأ ما في مرسم منافسه من لوحات.

وهذه الكاتبة الاميركية التي نشرت لاحقاً مذكرات شبه فاضحة هي التي حاول بيكاسو ان يرسم «بورتريه» لها، فعجز عن رسم الوجه لمدة ثلاثة أشهر ثم سافر ورسمه من الذاكرة وقال: اعرف ان الوجه لا يشبه جيرترود شتاين لكن مع الوقت ستصبح جيرترود مثل هذه اللوحة، وقد صدق بيكاسو، فبورتريه الكاتبة الاميركية موجود في المعرض اللندني ومن يقارنه بصورها الأخيرة يجد ان بيكاسو كان يراها في تحولاتها وليس كما كانت عليه في باريس عام 1905 حين رسمها على تلك الصورة الكئيبة نسبياً، والتي جعلها فيها تتوارى مذعورة خلف قناع.

وما دمنا قد فتحنا سيرة النساء وتحولاتهن لا يمكن إلا ان نلاحظ ان أهم ما يجمع هذين الفنانين الكبيرين هو الحفاوة بجمال الجسد البشري، وخصوصا الانثوي منه ففي حين سار ماتيس على خطى مواطنه رينوار في «الربربة» والتقاطيع الجسيمة اللدنة كان بيكاسو مخلصاً للنموذج الاسباني الرشيق، وهذه مرحلة سيعود اليها ماتيس في أواخر حياته مع لوحة «سلمى» التي لا تعرف أجزائرية هي أم مغربية؟ لكنك تدرك من سيرة ماتيس ان ولعه بالجمال الشرقي والشمال افريقي بدأ من بسكرة الجزائرية حين سار خلف الرسام الفرنسي الاشهر ديلاكروا الذي زار الامكنة ذاتها قبله بنصف قرن، وهذا المسار يستحق وقفة لوحده قبل ان نعود لخلط المسارات لفهم مسيرة فنانين صادرا القرن العشرين، ويتطلعان من تحت القبر لمصادرة قرون أخرى، يصبغانها بمتعة نادرة وبألوان من سحر حلال.