دولة المافيا

TT

تكشف وفاة زعيم المافيا الاميركية جو باناناس عن 97 عاماً، حقيقة عالمية مفزعة. وهي ان نظام «المافيا» الذي بدأ في ايطاليا في القرن التاسع عشر ونقل الى اميركا في بداية القرن العشرين، قد اصبح سائداً او حاضراً في بلدان كثيرة من العالم. اما في اميركا نفسها، حيث كان اسم المافيا يعني الايطاليين وبعض اليهود والايرلنديين، فقد اصبح الآن يشمل الروس الذين احتلوا المرتبة الثانية في الجريمة المنظمة، والفيتناميين واقليات اخرى.

وقد تلازم تاريخ المافيا في اميركا طوال القرن الماضي مع التاريخ السياسي. وعجزت الدولة بوضوح عن الوقوف في وجه اتساع السيطرة الجرائمية على مرافق الحياة العامة. ووصل الايطاليون من موطن الجريمة في صقلية، الى ولاية نيو اورليانز بادئ الامر. وحاول السكان مقاومتهم بالقوة وكادوا يشنقون بايديهم بعض الايطالين الذين ادانتهم محكمة خاصة.

ونجحت الولاية الى حين في صدهم، لكنهم اخذوا ينتشرون في مدن وولايات اخرى. وانتقلوا في العشرينات بصورة خاصة الى شيكاغو ونيويورك. وتوزعوا الى «عائلات» تتصارع مع بعضها البعض او «تنسق» مع بعضها البعض. وتحولت شيكاغو الى ساحة للتصفيات بين عصابات التجارة بالمخدرات والكحول والدعارة واشتهرت اسماء عدة في ساحة الجريمة كان ابرزها آل كابون الذي لم يستطع القضاء ادخاله السجن الا بتهمة التهرب من الضرائب وقد حاول عقد مصالحة مع دائرة الضريبة بدفع 4 ملايين دولار من اصل ثروة يملكها كانت تبلغ 20 مليون دولار. لكن الادارة رفضت العرض فادخل السجن لتسع سنوات وتوفي مريضاً وهو بعد في السابعة والاربعين.

شيئاً فشيئاً اخذت المافيا تبحث لنفسها عن حقول «قانونية» تعمل فيها، كالنقابات والمقاولات والابتزاز.

واصبحت تتولى «حماية» المطاعم ودور السينما من التخريب الذي كانت هي التي تتولاه بالطبع. وخفت جرائم القتل التي ترتكبها الا في ما بين اعضائها. وفرضت على كل منتسب قسم الصمت او «الاوميرتا»، ولذلك اخفقت السلطات الاميركية في انتزاع الاعترافات او المعلومات من الذين استطاعت اثبات التهم عليهم. ونجا كبار المجرمين و«العرابين» من الملاحقة لأن تنفيذ الاعمال الاجرامية اوكل الى صغار الفاعلين والمرتكبين.

وارتبطت المافيا في اساطير اميركا وحقائقها. وقيل، في ما قيل، انها كانت وراء مقتل جون كينيدي. وكان والده جوزيف كينيدي على صلات واضحة بالجريمة المنظمة. وعندما تولى جون الرئاسة سلم وزارة العدل الى شقيقه الاصغر روبرت الذي كرس وقته لمحاربة المافيا وبعض المسؤولين الذين كان يقال انهم يتواطأون معها، مثل مدير الاف. بي. آي ادغار هوفر، العازب المريض الذي صدرت بعد وفاته عشرات الكتب عن الحياة المزدوجة المقشعرة التي كان يحياها. ومنها علاقاته المباشرة وزعماء المافيا، ومنها انه كان يعيش بعد هبوط الليل في ثياب امرأة.

وفي فيلم «العراب» الذي يحكي قصة عائلة دون كورليوني، يظهر الدور الذي لعبته المافيا في دعم مطرب بارز، ولم يكن هذا سوى فرانك سيناترا، اشهر مغن في اميركا خلال القرن الماضي. وقد صدرت مئات الكتب وصورت عشرات الافلام عن اخوية الجريمة هذه، وغالباً بموافقة او بتمويل منها. ولم تشعر المافيا الايطالية بالتهديد او الخطر الا بعد وصول المافيا الروسية، التي اخذت تعمل ما بين نيويورك واسرائيل. ووردت اسماء بعض مشاهيرها الى جانب اسم بنيامين نتانياهو. وحاولت المافيا ان تنشئ لنفسها قواعد دائمة في بريطانيا لكن النظام حال دونها، وتعاني منها الان بعض دول اوروبا الشرقية. كما يقال ان بعض الافراد من الشرق الاوسط على علاقات دولية اجرامية. ويقول كولن ولسون في كتابه «التاريخ الاجرامي للانسانية» ان اول ما تفرزه الحروب هو انتعاش الجريمة المنظمة!