الذراع الإسرائيلية هي التي ضمنت وجودها!

TT

الـ (ح) والـ (ج) ممنوعان.. ماذا بقي من الصراع مع إسرائيل؟

جاءت القمة العربية، التي طال انتظارها، لتثبت ان زمن اللاءات قد ولى، وقرارات التجييش أضحت جزءاً من تراث أصبحت العودة اليه غير منتظرة، لأسباب عديدة سنأتي الى جوانبها القتالية باختصار. لكن، وقبل ذلك لا بد من التوقف أمام المتغيرات في المسائل السياسية والعقائدية المرتبطة بالصراع، فبعد ان كانت القضية الفلسطينية تشكل المحور الأساسي لأهم القضايا العربية الى درجة سميت القضية المركزية للعرب، فإنها باتت هامشية في نظر العديد من القادة العرب، ممن اضطروا للتحرك تحت ضغط الشعوب التي حركتها صور نقلتها قنوات فضائية.

وكان واضحاً قبل عقد القمة، ان لا أحد من العرب يريد ان يرمي اطلاقة هجومية واحدة، وهو ما نشر هنا بمقالين أحدهما للسيد عبد الرحمن الراشد، والآخر لكاتب هذا المقال، ومع ذلك، كانت القمة ناجحة بقياس المال، وهو الأهم، خصوصا لجهة المقترح السعودي بفتح صندوقين بمبلغ بليون دولار تعهدت المملكة بربعه، فتحاً لباب العطاءات، وهو موقف ينبغي على الفلسطينيين ادراك أبعاده، لأنه لم يأت على صيغة ثلاثة ملايين شهريا، وما تعنيه الدفعات الشهرية من ارتباط باستحقاقات معينة تعرفها قيادة السلطة الفلسطينية.

لا قدسية لأرض دون أخرى! وقبل دقائق من انعقاد القمة كانت الفضائية العراقية تجري لقاء مع طه الجزراوي نائب رئيس جمهورية العراق شن فيه هجوما عنيفا على قيادات عربية، ومعلقا الأمل على الشارع العربي، ومركزا الحديث عن (أمتنا العربية)، متجاوزا تحفظاته السابقة غير الضرورية تجاه التحديد اللفظي للعروبة، لأنه من أصول كردية تركية، على الرغم من ان الزمن تجاوز الوقوف على الجزئيات العنصرية..، ومع انعقاد القمة، وبعد ان حان دوره بدأ رئيس الوفد العراقي الفريق أول الركن عزة الدوري بقراءة فقرات مطولة من رسالة طويلة لصدام حسين، أثبتت ان لا متغيرات في موقف النظام في العراق عما كان عليه عام 1990، وتضمن هجوماً على حكام عرب «حملوا مسؤولية انحدار الأمة» وختمت الرسالة بالعبارة المعتادة (وليخسأ الخاسئون)، بعد ان طالبت بإعلان الحرب الشاملة مع اسرائيل. والجديد الوحيد فيها كان ابدال كلمة الحرب بالجهاد. لكن الجهاد على ماذا، ومن أجل ماذا، وكيف؟ فقبل دقائق من قراءة الدوري لفقرات من رسالة صدام، قال طه الجزراوي: ان لا قدسية مضافة للقدس أو غيرها من أرض فلسطينية، عن قدسية أي جزء آخر من الأرض العربية، حيثما تكون من ناحية السيادة. وهذا يعني، وفق هذه المعادلة، ان اجزاء مفقودة من الأراضي العراقية هي الأكثر قدسية من الأراضي الفلسطينية، وهو قول لا يفترض انه خرج عن فهم العراقيين، فالقوات العراقية قاتلت على أرض جنين عام 1948، وقاتلت في مناطق أخرى عام 1967 و1973، يوم لم يكن هناك شبر من الأرض العراقية محتلا، لكن القدس تبقى لها خصوصية دينية يترك الإفتاء فيها للمؤهلين، ولكل حالة خصوصيتها ولكل خصوصية اجتهاد وظروف. ووفق هذا الفهم يمكن التساؤل عما إذا توافرت الجدية في اعلان الجهاد، وأليست الأراضي العراقية (المفقودة) هي الأحق بإعلان الجهاد وفق هذه المواقف الافتراضية الاستهلاكية. ونذكر هذا لغرض المقارنة فقط لا التثوير، فأي أرض عراقية حررها النظام في العراق؟ الحقيقة انه تسبب في ضياع أرض عراقية، وباتت سيادة البلد مثلّمة! مواقف حماسية عاجزة! الكلمة الوحيدة القوية والحماسية كما وصفها الرئيس مبارك، كانت خطبة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، التي شدد فيها على انه ليس داعية حرب، بل داعية مقاومة من أجل السلام، أي ان يأخذ الفلسطينيون حقوقهم ضمن قرارات الأمم المتحدة، وليس من النهر الى البحر، رغم انه وصف اسرائيل بالغدة السرطانية، لاحقا بمن سبق من ايرانيين وغيرهم..، وهي حقوق سيأخذها الفلسطينيون إذا لم يبنوا مواقفهم على أوهام، ويتعجلوا قيام الدولة. كما ان الرئيس صالح بسّط الى حد كبير القدرة العسكرية الاسرائيلية، مع عدم الشك في انه سيرسل وحدات للحرب لو فتحت الجبهات، إذا لم يتعرض اليمن لضغوط قوية في وقت يحرص فيه على انتعاش علاقاته مع الولايات المتحدة، حيث سبق ان أرسل لواء العروبة للقتال مع القوات العراقية طيلة سنوات الحرب مع ايران، وضعته القيادة العراقية في منطقة ثانوية لم تشهد قتالا نشطا. لكن الجبهات لن تفتح!.

قرارات عقلانية وعلى الرغم من المواقف الثورية الحماسية فإن قرارات القمة بقيت ضمن الحدود المسموحة والعقلانية في تجنب صراع يقود الى حرب عسكرية، لا تتوهم الدول المجاورة في خوضها بكل ما يمكن ان يترتب عليها من دمار هائل، وعندئذ لا تنفع المواقف الثورية غير المسيطر عليها عن بعد. فما يتحمله الاقتصاد العراقي رغم العقوبات المتآكلة لا يتحمله الاقتصاد المجاور، وما يتضرر به اليمن يبقى سطحيا وفق خسائر الجوار. ومع هذا وذاك وقع الحاضرون على القرارات ليحتفظ كل منهم بمواقف لحقبة تاريخية معينة، وشذت ليبيا عن القاعدة القممية بمغادرة الاجتماع تعبيرا عن رفضها القرارات، التي تختلف عن طروحاتها، فلا مقاطعة سياسية شاملة، ولا قرار حرب عسكرية. إذاً علام حضر النظام في العراق الاجتماع ولم يغادره احتجاجا؟ إذا لم تكن الثورية استهلاكا يهلل له المتظاهرون من غير دراية؟.

والحقيقة ان الأمر لا يتعلق بالنظام في العراق وحده، فإنه يمكن ان يساهم حربيا، فما أرخص الدماء العراقية طالما ان العقاب لمن يجرؤ على الكلام جاهز!، فصدام يقول الا تستحق القدس تضحيات مدمرة؟، ما يتناقض مع ما قاله الجزراوي عن الحالة القدسية مع أن التناقض ممنوع في العراق. فالصراع العربي قد خفت بريقه، والذين ذاقوا حروبا سابقة لم يعدوا لها جيدا، أو بالأحرى لم تتوافر لهم قدرات خوضها اقتصاديا وتقنيا، يعلمون حدود شر القتال، لذلك كانوا واقعيين في شعاراتهم ومطالباتهم التي حصروها ضمن النشاطات السياسية والاقتصادية..، ومع ذلك فإنها طلبات لن تأخذ طريقها نحو التطبيق الشامل، لأن الدول العربية باتت تتعامل وفق اسبقيات منطلقاتها القطرية لا القومية، ومنذ البداية لم يستطع العرب المحافظة على تلازم المسارات السلمية، لأن التلازم لا يمكن ان يتحقق طالما اختلفت المصالح وتباعدت النيات، وبقي التضامن مقصودا بنواحيه السياسية بعيدا عن مراعاة العوامل الاقتصادية!.

لماذا تبنى العرب السلام خيارا؟

منذ قامت دولة اسرائيل أظهر العرب موقفا متشددا حيالها، وحاربوها عام 1948 يوم لم تكن هناك نظم ثورية راديكالية، ولا تطلعات وحدوية منظمة. وجاء اليهود الى فلسطين على دفعات ليعززوا يهود فلسطين، وطيلة السنوات الــ 52 خسر العرب كل حروبهم معها. والحقيقة ان الاسرائيليين لو جابهوا حربا على الطريقة الايرانية والعراقية في تحمل الخسائر بمدد مالي خليجي، لتغيرت المعادلات لغير صالحها، ولاضطرت الولايات المتحدة ودول غربية للتدخل العسكري المباشر لحمايتها، وهو ما لم تفعله من قبل (خلافا لكل ما قيل). أو ان تنفض الأيادي منها ويعود صلاح الدين من جديد بعد ألف عام. لكن ما فات مات. وان أي صراع عسكري مباشر يهدد أمن اسرائيل ويتجاوز حدود حساباتها المصيرية من صراع الحدود الى مسألة الوجود سينتهي الى ضربات نووية مدمرة، تحسم الصراع لحساب دولة اسرائيل التي ستكون من البحر الى النهر (على الأقل).

وخلال العقود الخمسة كانت استعدادات العرب لخوض الحرب قاصرة عن مجابهة اسرائيل للأسباب التالية:

ـ الخلافات والمزايدات السياسية من قبل بعض الأطراف.

ـ ضعف الاقتصادات المصرية والسورية والأردنية لمجابهة حرب مكلفة، وان دول الجوار كانت تطمح بتمويل عربي أكبر.

ـ تبني العرب حليفا ثقيلا بتحركاته ومناوراته الاستراتيجية، الا وهو الاتحاد السوفيتي، الذي ظهر انه كان متآكلا خلف ستار العزلة والأسرار، ومع ذلك، وعلى الرغم من تخلف ترسانته العسكرية تقنيا فإنه كان يحجب عن العرب جيلا ـ ثلاثة أجيال من أسلحته، خوفا على سريتها لمتطلبات الحرب الباردة، فيما تبنت اسرائيل حلفاء غربيين فعالين، فقد ساعدها الفرنسيون بالمفاعلات النووية وكانت الميراج طائرة التفوق الحقيقي تجاه الطائرات الروسية المتخلفة، المجهزة بها الدول العربية، قبل ان تنتقل الى الطائرات الأحدث في العالم.

ـ خسائر العرب البشرية في أشد حروبهم، كانت قليلة جدا دفع العراقيون والايرانيون اضعافها في عملية الفاو 1986 وحدها، حيث تكبدت القوات العراقية حوالي أربعين ألف اصابة بشرية من أجل صد القوات الايرانية واحتواء هجومها في منطقة الفاو، ولمنعها من التطوير شمالا نحو البصرة أو غربا نحو أم قصر. وتحمل الايرانيون 45 ألف اصابة من جراء الضربات الكيمياوية وحدها، ومع ذلك واصل الطرفان الحرب. ولما كان قرار تحمل خسائر بشرية عالية من قبل العرب غائبا فكان لا بد من السلام.

ـ وبما ان العرب ليسوا مستعدين لخسائر بشرية عالية، واقتصاداتهم لا تحتمل الاستمرار في حالة الحرب، وتقنيات اسلحتهم محدودة، اصبحت استراتيجياتهم القتالية مرهونة بمعطيات البلد المقيدة، وإلا فإن البلدان العربية لم تكن بحاجة لشحن ثوري ولا عقائدي ولم تكن بحاجة لقيادات أخرى.

ووفق المعطيات المذكورة تبنى عرب الجوار السلام خيارا استراتيجيا، وهم صادقون ومصيبون في ذلك لأنه الطريق الذي لا طريق غيره، بعد ان امتلكت اسرائيل سلاحا نوويا بعيدا عن التبسيط.

ولما كان السلام هو الخيار الوحيد وبقاء الاجتهادات محددة في جوانبها السياسية والاقتصادية، فلا داعي للمواقف الحماسية والاستهلاكية، ولا التهديد باللجوء الى عمليات العنف الخاص، وانه لمن المؤسف ان تستمر السياسة في العراق على نغماتها السابقة، وان يصبح في بغداد مأوى لممارسي نشاطات ارهابية تعرض حياة المدنيين للخطر، فتحكم عليهم العزلة الأبدية، ولا يتمكنون من مغادرة العراق الى أي مكان لأنهم أصبحوا مطلوبين دوليا، وضع عاشه جزئيا علاء حسين رئيس الحكومة الكويتية المزعومة وفضل مغادرته اختيارا الى زنزانة الاعدام.

وإذا كانت هذه هي الحسابات فمن مصلحة الفلسطينيين إعادة النظر في علاقاتهم وتحالفاتهم، بضوء ما قدم لهم من مواقف عملية عاقلة ومالية سخية ضمن صناديق مقررة اصولية، وان السعي وراء الأوهام لن يؤدي الا الى مزيد من الضحايا، وان انسحابا افتراضيا اسرائيليا من بعض المناطق لن يكون حلا مطلوبا.

لقد طالب الفلسطينيون كثيرا بعقد مؤتمر للقمة، وكانوا يلحون هم وغيرهم على حضور النظام في العراق القمة، فكان لهم ما أرادوا. فما الذي تحقق؟ وما جدوى القمم؟ فلو بقي الفلسطينيون على تبرعات الخليج شعوبا وحكومات لكان ذلك أوفق لهم، فالقمة لم تعطهم سلاحا، ولم تطغ عليها الشعارات العنترية، فهل سينادون بقمة أخرى ليعبروا عن خيبة أمل جديدة؟.

ان زمن القمم قد انتهى، وجاء وقت تنسيق المواقف ووفاق المصالح.

خيار السلام المتوازن من دون تعجل هو الذي يقود الى الحقوق، والزمن كفيل بذلك، لأن المعادلات ستكون مع الفلسطينيين طالما حافظوا على وجودهم.

هذا هو الخيار، طالما حرّمت الدول العربية قرارات تبدأ بالحاء والجيم، فلا حرب عسكرية، ولا جهاد مسلحاً.

لقد حظي الفلسطينيون بمساعدات عربية لم يحظ بمثلها غيرهم طيلة العقود الخمسة الماضية، وبات الطريق الى السلام مطلوبا، والصبر لا بد منه.

* مدير الاستخبارات العسكرية السابق في العراق