منطق بني طبع

TT

اذا كنت من هواة ليّ اعناق الحقائق لتستجيب لمزاجك الخرب والمتعود على التزوير والتزييف، فلك ان تزعم ان عروة بن الورد كان من طلائع التطبيع الثقافي في الجاهلية.

ولك على هذا الزعم اكثر من دليل، وما دام التلاعب بالادلة ومدلولاتها ممكنا فالرواة يقولون ان عروة كان يخالط من اهل يثرب بني النضير، فيقرضونه اذا احتاج، ويبايعهم اذا غنم، وهنا يستطيع المزورون ان يستخدموا «يبايع» بمعنى المبايعة على السيادة، وليس بمعنى البيع. ولا نظن انهم سيفعلون ذلك لأنهم يفضلون معنى البيع ليثبتوا ان عروة بن الورد اقر ايضا بالتطبيع الاقتصادي وهو الهدف النهائي لحملات التطبيع.

وكل ما في الامر حسب الحقائق الملوية ان ذلك الشاعر العربي لم يكن عنده الوقت لينتظر تأسيس بنك التنمية للشرق الاوسط حسب مقترحات بيريس، لذا كان يصرف شيكاته، وهي دائما على شكل إبل سائبة عند صيارفة تلك القبيلة اليهودية.

ولا اعرف لماذا يحرص المطبعون على ايجاد سوابق تراثية لأفعالهم، فهؤلاء، وهم مسنودون ومدعومون من شرم الشيخ وواي ريفر وسايكس بيكو وبلفور، وكان يفترض ان يكفيهم الحاضر والمستقبل، لكن هذا لم يحصل، فالتفتوا الى التراث، ولم يفهموا من تراث التسامح الاسلامي والعربي كله غير مغازلة الصهاينة، والتعامل من دون قيود معهم.

وفي التحليل النفسي، فإن الاحتماء بالتراث دلالة على عدم ثقة بالمعاصرة، وهؤلاء كانوا الى وقت قريب يظنون انهم من فتية، دان كلينتون لهم بالعرفان الى الأبد فليس يصيبهم إلا بما شاءوا فيكسبون، ويغنمون، ويقبضون ثمن تنكرهم لثوابت امتهم، مع جوائز اضافية لتنصلهم من مسؤوليتهم تجاه أوطانهم.

ولم ينتبه هؤلاء الذين ظنوا انهم ملكوا الحاضر والمستقبل الى ان الروح الوطنية جذوة دائمة الاشتعال تخبو احيانا ولكنها لا تموت، وان ما ظنوه الاحتضار الاخير للمشاعر القومية لم يكن موتا بقدر ما كان ارهاصا بصحوة جديدة وهكذا افاقوا على حقائق مختلفة عما سولته لهم مصالحهم الضيقة، وصورته لهم نفوسهم الأمارة بالنفاق والتضليل.

والمغيظ في بني (طبع) الذين يخجل من سواد أفعالهم حبر المطبعة، انهم يدعون العقلانية، ويزعمون امتشاق سلاح العقل، ولو كانت فيهم ذرة عقل او منطق لأدركوا ان العاقل لا يبيع روحه بدراهم معدودات، ففاوست أخذ الكثير مقابل صفقته مع الشيطان، لكنه ظل يشعر بالغبن، فأثمن ما يملكه الانسان نفسه التي لا يمكن ان تسامحه او تريحه حين يقدم المصلحة على المبدأ، والمادة على العاطفة، والخداع على اليقين الصافي، وهل هناك اصفى من ان تلتزم جادة الحق والصواب لتقف ضد الظالم وفي صف المظلوم مهما كانت العواقب.

لقد كانت المقاطعة الاقتصادية، وعدم التطبيع، من القرارات والمواقف الصائبة، لكننا رمينا بهذين السلاحين مع اسلحة كثيرة اخرى كانت تقربنا من اهدافنا وطموحاتنا المشروعة. ولا عيب في من يعترف بالخطأ ويعود الى جادة الصواب، أما العيب فهو الاصرار على خلع العذار وسفح آخر ما تبقى من حياء والاستمرار في التعاون مع صهاينة يثبتون يوميا ان السلام ليس هو عند مختلف احزابهم وتياراتهم اكثر من لافتة موسمية للتضليل والتخدير.