قمة... بقوة الحجارة

TT

لن نلتفت إلى ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية على ما انتهت إليه القمة الاستثنائية التي عُقدت في القاهرة يومي السبت والأحد الماضيين، ذلك أن ردود الفعل هذه وما حفلت به من إطراءات للحكمة العربية والتعقل العربي تجعلنا نشعر بالكثير من الإحباط.. وتجعلنا نعتبر أن قادتنا كانوا مقصرِّين في تأدية الواجب، مع أن الأمر ليس كذلك.

إننا لن نلتفت إلى ردود الفعل تلك وسنكتفي بتسجيل الرجاء مقروناً بالتمنيات أن يترجم القادة العرب الذين شاركوا في القمة ما تضمنه البيان الختامي. ففي البيان الكثير من الكلمات والسطور التي إذا أخرجها القادة من دائرة اللفظ إلى دائرة الفعل أن تحقق الكثير في هذه المرحلة الدقيقة التي تواجهها الأمة.

ومن المؤكد أننا في القراءة المتأنية للبيان الختامي سنجد الفقرات التي يمكن وضع خطوط تحتها للتدليل على أهميتها. وفي طليعة هذه الفقرات ما يتعلق بالصندوقين اللذين اقترحت المملكة العربية السعودية استحداثهما وأعلنت سلفاً أنها ستساهم بربع المبلغ المخصص لهما، وهما «صندوق القدس» ويُخصَّص له 800 مليون دولار لتمويل مشاريع تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس والحيلولة دون طمسها وتمكين الشعب الفلسطيني من الانفكاك من تبعية الاقتصاد الإسرائيلي، و«صندوق انتفاضة القدس» برأسمال مقداره 200 مليون دولار يخصَّص للإنفاق على أُسَر الشهداء الفلسطينيين في الانتفاضة وتهيئة السبل لرعاية وتعليم أبنائهم.

ومن الفقرات المهمة أيضاً الدعوة التي وجَّهها القادة إلى ابناء الأمة العربية للتبرع بأجرهم عن يوم واحد لدعم الانتفاضة ومساندة النضال الفلسطيني.

ما يتعلق بالصندوقين لن تكون هنالك مشكلة، هذا اذا حذت بقية الدول العربية حذو المملكة العربية السعودية وأعلنت كل دولة ومن دون تباطؤ حجم مساهمتها في الصندوقين. وكم كنا نتمنى لو أن الإعلان عن ذلك تم في الجلسة التي أعلن فيها ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز الاقتراح المتعلق بالصندوقين، ذلك أن مثل هذه المسارعة كانت ستؤكد الأريحية العربية في ساعات الشدة فضلاً عن أن المؤتمر منعقد على مستوى القمة وفي استطاعة القادة بحكم وقوف كل منهم على أوضاع خزينة دولته أن يقرر، بعد استفسار من وزير المال لا يحتاج إلى أكثر من بضع دقائق، حجم المساهمة. ونجد ذاكرتنا هنا تستعيد ما حدث في القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم من 29 اغسطس (آب) إلى 2 سبتمبر (أيلول) 1967 وكيف أن مبادرة الدعم المالي للصمود كانت أيضاً سعودية وأنه لمجرد أن أعلن الملك (الراحل) فيصل بن عبد العزيز عنها فإن نجم تلك القمة رئيس وزراء السودان (الراحل) محمد أحمد محجوب تلقَّف الفكرة القومية الطيبة ونشط في سبيل إنجازها على الفور وبحيث انتهى سعيه إلى تحديد الحصص سواء بالنسبة إلى المساهمة أو إلى الدول التي ستحظى بالدعم وهي مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وسورية على رغم أنها قاطعت القمة بحجة لم تكن مقنعة وتشبه في بعض حيثياتها حجة العقيد معمر القذافي في مقاطعة قمة القاهرة الاستثنائية.. قمة الانتفاضة.

ونحن عندما نرى في المساندة المالية للانتفاضة وبالذات ما يتعلق بالصندوقين أنها إنجاز بالغ الأهمية حققته قمة القاهرة ذات الرقم 25، فعلى أساس أن هذه المساندة تشكِّل في الغياب القاهر أو المتريث للمساندة السياسية والعسكرية اعترافاً بجدوى الانتفاضة وإقراراً بشرعيتها ودعوة إلى المنتفضين لكي يواصلوا ما قاموا به. كما أن دعوة القمة رسمياً لأبناء الأمة كي يتبرعوا بيوم عمل واحد للانتفاضة هي نقلة نوعية في تعاون الحكام والمحكومين لنصرة قضية من الطبيعي أن تكون نظرة المواطن إليها تفيض حماسة وتكون نظرة الحاكم إليها على درجة من التأني والتريث. وفي تقديرنا إن تنظيم عملية التبرع لمساندة الانتفاضة تحتاج إلى دقة في التنظيم وأن الاستئناس بالدقة التي اعتمدها كقاعدة الأمير سلمان بن عبد العزيز في الحملة المستمرة لجمع أموال المساندة والتبرع لفلسطين من شأنه أن يفيد.

وإلى ذلك انه من المهم ألاَّ يغيب عن البال أن المساندة المالية الدائمة من اللوبيات اليهودية في العالم لإسرائيل والتي هي مستمرة ولا يبدو أنها ستتوقف، شكَّلت في مرحلة عمل الصهيونية من خلال العصابات قبل أكثر من نصف قرن ثم بعد النكبة واغتصاب فلسطين نتيجة المؤامرة الدولية التي وضعت بريطانيا الحجر الأساس لها، العنصر المهم في قيام الدولة العبرية. ويرى المرء وهو يتابع هذه الهمة والشجاعة واقتحام المخاطر والمنازلة التاريخية لفتية فلسطين بالحجر مقابل الرصاص الإسرائيلي أن فلسطين لا يمكن إلا أن تُستعاد، بصرف النظر عما إذا كانت الاستعادة هي لفلسطين الوطن أو لتأسيس فلسطين الدولة.

ولكن المهم بالنسبة إلى المساندة المالية العربية للانتفاضة هو استعمالها وتوظيفها على الطريقة اليهودية وليس على طريقة بعض اخواننا الفلسطينيين في الستينات والسبعينات. ويخشى المرء إن هو خاض في التفاصيل وتطرَّق إلى الأسماء والمشاريع أن يجد نفسه يدخل في متاهات ليس هذا وقتها على الإطلاق.

بالإضافة إلى مسألة المساندة المالية التي باتت قراراً على مستوى القمة لا يمكن الغاؤه إلا من خلال قمة أخرى وهذا ما لن يحدث، هنالك الفقرة التي تتعلق بالعلاقات مع إسرائيل وفيها يؤكد القادة العرب على «ضرورة التصدي الحازم لمحاولات إسرائيل التغلغل في العالم العربي تحت أي مُسمَّى والتوقف عن إقامة أي علاقات مع إسرائيل، ويُحمِّلون إسرائيل مسؤولية الخطوات والقرارات التي تُتَّخذ في صدد العلاقات مع إسرائيل من قِبَل الدول العربية بما في ذلك الغاؤها...».

كذلك هنالك الفقرة اللاحقة التي ترى «ان معالجة قضايا التعاون الإقليمي لا يمكن أن تتم دون إنجاز حقيقي تجاه السلام الشامل والعادل في المنطقة» وأيضاً الفقرة اللاحقة للفقرتين اللتين ثبَّتناهما والتي يؤكد فيها العرب ما يشبه فك الارتباط بمؤتمر مدريد. وعند القراءة المتأنية للفقرة يمكن استنتاج ذلك. وهذه الفقرة تنص على الآتي: «إن القادة العرب يقررون عدم استئناف أي نشاط رسمي وغير رسمي في الإطار المتعدد الأطراف ووقف كافة خطوات وأنشطة التعاون الاقتصادي الإقليمي مع إسرائيل في هذا الإطار وعدم المشاركة في أي منها وربط استئنافها ومداها بتحقيق إنجاز ملموس في اتجاه تحقيق السلام العادل والشامل على كافة مسارات عملية السلام...».

وهذه الفقرات تعكس إقراراً من القادة العرب بأن عملية السلام في مأزق بسبب إسرائيل. وصحيح أن الرأي العام العربي الغاضب كان يتوقع خطوة أكثر تقدماً كأن تعلن مصر والأردن قطع العلاقات الدبلوماسية في الحد الأقصى أو استدعاء السفيرين احتجاجاً في الحد الأدنى ومن ثم خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، إلا أن مثل هذا الإجراء قد يخفف من وطأة الاحتقان في الصدور إلا أنه لن يفضي إلى نتائج تأتي فاعلة. وفي هذا السياق يجد المرء نفسه يفترض أن الرئيس حسني مبارك والملك عبد الله الثاني ليسا فخورين على الإطلاق بأنهما يتمسكان بالعلاقة الدبلوماسية مع إسرائيل بينما السلطان قابوس حسم أمر العلاقة مع إسرائيل بإغلاق مكتب التمثيل، وحذا حذوه خلال انعقاد القمة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي أقفل مكتبي الاتصال مع إسرائيل، وبدا واضحاً أن أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على طريق أن يتخذ القرار نفسه.. وإلا فكيف سيستضيف الشهر المقبل القمة الإسلامية في الدوحة.

ولا نظن أن الرئيس مبارك سيكون كثير الانزعاج إذا بلغه ذات يوم وبعد كل الذي فعله أن تظاهرة مصرية حاشدة تكون بحيوية التظاهرة التي شهدتها الرباط في الأسبوع الأول للانتفاضة وعُرفت بـ «تظاهرة المليون» وكذلك بحيوية التظاهرة التي شهدتها صنعاء يوم افتتاح قمة القاهرة وعُرفت بـ «تظاهرة المليون ونصف المليون»... لا نظن أن الرئيس مبارك سيكون منزعجاً إذا بلغه وفي يوم ليس بالبعيد وفي حال لم تقرر إسرائيل إعادة النظر في موقفها ومسلكها وعدوانها، أن «أم التظاهرات» ستشهدها القاهرة ويشارك فيها مليونان وأن هذه التظاهرة توجهت إلى حيث مقر السفارة الإسرائيلية وأغلقت بالهتافات والسواعد هذه السفارة. أما لماذا لن يكون كثير الانزعاج فلأن الكيل فاض عنده وأن الاسرائيليين أحرجوه ما فيه الكفاية عندما لم يقرأوا بإدراك ووعي ما جرى في القمة الاستثنائية التي استضافها في القاهرة، وكان في استطاعة قرارات تتخذها القمة وتنسجم مع المشاعر الراهنة للرأي العام العربي أن تجعل بضعة ملايين عربي يدقون البوابات الإسرائيلية من كل الجهات ومن دون أن يخشى الواحد منهم الرصاص. وفي هذه الحال ما الذي سيفعله باراك وشارون وهل سيواجهان القنبلة البشرية العربية بالرصاص وهل إن الجيوش العربية لن تتحرك ولن تشتعل المنطقة كما لم تشتعل من قبل؟

إن القراءة المتأنية للبيان الختامي للقمة حافل بالكثير من الوقفات التي يمكن أن تكون جسورة إذا كانت لن تبقى حبراً على ورق ولن يحدث التنفيذ الفوري لما يوجب التنفيذ والمتابعة المسؤولة لما قد يتبدد في حال غابت عنه المتابعة. وما يأمله المرء هو ألا يحين موعد انعقاد القمة الأولى (في العاصمة الأردنية عمان) في مارس (آذار) المقبل وضمن النهج المستجد والمتعلق بعقد القمة دورياً وكل مرة في دولة حسب الترتيب الأبجدي، إلا وتكون حصص المساهمة في الصندوقين اللذين اقترحتهما السعودية قد تحددت وتكون اكتملت عملية إعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل بخطوة تصدر عن قطر وأخرى تصدر عن موريتانيا إلا إذا كان الموريتانيون يرون أنهم لن يقطعوا العلاقات إلا إذا فعلت ذلك مصر وحذا الأردن حذوها... أو أخذت الشعوب في الدول الثلاث الأمر على عاتقها بسواعدها وحناجرها.

وتبقى الملاحظة اللافتة وهي هذا الإغفال المريب للدور الأميركي في كل ما تفعله إسرائيل والذي ما كانت لتفعله لولا الإدارة الأميركية الغافرة بالتصريحات دائماً، وبسلاح الفيتو عند الحاجة، لكل الأخطاء والخطايا الإسرائيلية. وما يمكن قوله في هذا الصدد ان كل ما قالته القمة عن إسرائيل وعملية السلام وعن إطراء الانتفاضة وتبنِّيها ومساندتها بالمال، وعن قطع العلاقة مع الدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس على نحو ما تقَّرر في مؤتمر القمة العربي الحادي عشر في عمان عام 1980، هو عملياً كلام موجَّه إلى إسرائيل لكي تسمعه أميركا، وأن عدم تسمية الإدارة الأميركية بالاسم وكذلك عدم التلويح بسلاح النفط هو فقط من باب اتقاء شر دولة موجودة عسكرياً براً وبحراً وجواً في المنطقة منذ الاجتياح العراقي للكويت، واعتادت على أن تعتدي من دون استئذان، فضلاً عن أنه يكفيها من الاستفزاز ما أصاب إحدى مدمراتها في ميناء عدن. وعلى هذا الأساس فلا موجب لمناطحة ثور من نوع «البافالو» الأميركي ولا موجب لإعطائه حجة للإقدام على تصرُّف أحمق من شأنه أن يدفع بالمنطقة إلى الأسوأ.

وإلى اللقاء مع قمة أفضل... قمة ربيعية أكثر حسماً من القمة الخريفية في القاهرة بعد أربعة أشهر. ونقول ذلك مع الأخذ في الاعتبار أنه لو حدث أن قمة القاهرة عُقدت قبل انتفاضة الأقصى ببضعة أيام وصدر عنها البيان الختامي والقرارات والتوصيات التي صدرت عن هذه القمة التي هي موضوع كلامنا، لكانت بدت كما لو أنها قمة التشدد، بل و«أم القمم»، ولكان ساد انطباع بأن انقلاباً في الرؤية العربية للسلام مع إسرائيل قد حدث، أو انه على أهبة الحدوث. إلا أنها في أي حال جاءت بنتائجها قياساً بالظروف الدولية والإقليمية قمة بقوة الحجارة... وتؤسس لعمل عربي مشترك يكون بقوة الرصاص الذي يواجه به الإسرائيليون أبطال انتفاضة الأقصى.